منزلة القلب الخاطرة الأولى

0
مــنـزلة القـــلـب
______
إن الحمد لله نحمده ، و نستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ،ومن سيئات أعمالنا . من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك .وأ شهد أ ن محمداً عبدُه و رسولُه .
(يَاأَيها الذين آ مَنُوا اتقُوا اللهَ حَق تُقَا ته ولاتموتن إلا وأنتم مُسلمُون ) (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً )أما بعد. (1)
نتكلم بداية كمقدمةعن أهمية التواصي بالحق
قال تعالى في محكم تنزيله (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْابِالصَّبْرِ )
قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: "لو ما أنزل الله على خلقه حجة إلا هذه السورة لكفتهم " .
علق الشيخ بن عثيميين رحمه الله تعالى ( مراده رحمه الله أن هذه السورة كافية للخاق في الحث على التمسك بدين الله بالإيمان والعمل الصالح والدعوة إلى الله والصبر على ذلك وليس مراده أن هذه السورة كافية للخلق في جميع الشريعة (2). وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقو بعضهم بعضاً يتلون هذه السورة الكريمة كما ورد في الحديث "كان الرجلان من أصحاب النبي إذا التقيا لم يفترقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر : ( و العصر إن الإنسان لفي خسر ) ، ثم يسلم أحدهما على الآخر" (3) ولعل هذه تكون سنة مفقودة بيننا .
و هذه المقدمة أوردتها فقط لأبين أهمية التواصي فيما بيننا بالحق والصبر على ذلك ولعل ما أفعله الآن يكون من هذا .
فأذكر نفسي أولاً ثم أذكر أحبتي بما يمن الله به علينا ونسئل الله التيسير وليبلغ بعضنا بعضا .
وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خطب يوم النحر
" ليبلغ الشاهد الغائب فإنه رب مبلغ يبلغه أوعى له من سامع "
(4)
وسنتكلم إن شاء الله تعالى عن منزلة القلب ومكانته من الجوارح وأهميته .
فقد أجتمعت الأدلة من كتاب ربنا تبارك وتعالى وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على أن نجاة الإنسان معلقة بصلاح قلبه فالهذا ينبغي علينا الإعتناء بالقلب عناية بالغة كي نصل إلى صلاحه إن شاء الله تعالى
فعلينا أولا أن نعرف ما هو القلب؟
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: ( سمي القلب قلبا لتقلبه في الأمور، أو لأنه خالص ما في البدن، وخالص كل شيء قلبه، أو لأنه وضع في القلب مقلوبا . وقال رحمه الله: وخص القلب بذلك لأنه أمير البدن، وبصلاح الأمير، تصلح الرعية، وبفساده تفسد. وفي هذا الحديث تنبيه على تعظيم قدر القلب، والحث على صلاحه». (5)

ثانياً :- لماذا الإهتمام بالقلب ؟
1- لأن سلامة القلب سبب في النجاة يوم القيامة .
قال تعالى: « {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ » [الشعراء: 87- 89]. قال الحافظُ بن كثير ، رحمه الله : أي سالم من الدنس والشرك .
وقال القاسمي : بقلب سليم : من مرض الكفر والنفاق والخصال المذمومة والملكات المشئومة .
وقال العلامة ابن القيم ، رحمه الله : القلب السليم : هو الذي سلم أن يكون لغير الله فيه شرك بوجهٍ ما ، بل قد خلصت عبوديته لله تعالى إرادة ومحبة وتوكلاً وإنابة وإخباتاً وخشية ورجاءً ، وخلص عمله لله ، فإن أحب أحب في الله،وإن ابغض ابغض في الله ، وإن أعطى أعطى لله،وإن منع منع لله ،ولا يكفيه هذا حتى يسلم من الانقياد والتحكم لكل من عدا رسول الله صلى الله عليه وسلم
2- لأن العقل محله القلب .
قال تعالى {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ }الحج46
ذكر الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي في فتوى له في مسائلة " مقر العقل من الأنسان "
" والآيات القرآنية والأحاديث النبوية في كل منهما التصريح بكثرة أن محل العقل القلب ، وكثرة ذلك وتكراره في الوحيين لا يترك احتمالاً ولاشك في ذلك ، وكل نظر عقلي صحيح يستحيل أن يخالف الوحي الصريح "
(6)
3- لأن بصلاح القلب يصلح البدن كله وبفساده يفسد البدن كله
عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجسد مضغة إذا صلحت، صلح الجسد كله، وإذا فسدت، فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» (7) .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في شرح هذا الحديث: (فبين أن صلاح القلب مستلزم لصلاح الجسد؛ فإذا كان الجسد غير صالح، دل على أن القلب غير صالح، والقلب المؤمن صالح؛ فعلم أن من يتكلم بالإيمان، ولا يعمل به، لا يكون قلبه مؤمناً، حتى أن المكره إذا كان في إظهار الإيمان؛ فلابد أن يتكلم مع نفسه، وفي السر مع من يأمن إليه، ولابد أن يظهر على صفحات وجهه وفلتات لسانه؛ كما قال عثمان. وأما إذا لم يظهر أثر ذلك إلا بقوله، ولا بفعله قط؛ فإنه يدل على أنه ليس في القلب إيمان، وذلك أن الجسد تابع للقلب؛ فلا يستقر شيء في القلب إلا ظهر موجبه ومقتضاه على البدن، ولو بوجه من الوجوه)
(8)
وقال الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي – رحمه الله – في شرحه لهذا الحديث أيضاً: إن صلاح حركات العبد بجوارحه، واجتنابه للمحرمات واتقاءه للشبهات بحسب صلاح حركة قلبه.
فإن كان قلبه سليماً، ليس فيه إلا محبة الله، ومحبة ما يحبه الله، وخشية الله، وخشية الوقوع فيما يكرهه؛ صلحت حركات الجوارح كلها، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها، وتوقي الشبهات حذراً من الوقوع في المحرمات.
وإن كان القلب فاسداً، قد استولى عليه اتباع هواه، وطلب ما يحبه، ولو كرهه الله، فسدت حركات الجوارح كلها، وانبعثت إلى كل المعاصي والمشتبهات بحسب اتباع هوى القلب. ولهذا يقال: القلب ملك الأعضاء، وبقية الأعضاء جنوده، وهم مع هذا جنود طائعون له، مبعثون في طاعته، وتنفيذ أوامره، لا يخالفونه في شيء من ذلك؛ فإن كان الملك صالحاً كانت هذه الجنود صالحة، وإن كان فاسداً كانت جنوده بهذه المثابة فاسدة . (أ.ه )
4- لأن القلب سريع التقلب والتحول .
قال هناد ، قال حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن أنس قال :-
" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك فقلت يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا قال نعم إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف "
(9)
قال شهر بن حوشب ، قلت لأم سلمة " يا أم المؤمنين ما كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندك قالت كان أكثر دعائه يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك قالت قلت يا رسول الله ما أكثر دعاءك يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك قال يا أم سلمة إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ فتلا معاذ { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا } (10).
وفي هذا الحديث العديد والعديد من الفوائد ومنها
أ- الأكثار من دعاء الله عز وجل أن يثبت قلوبنا على دينه.
ب- حب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه وأمته وخوفه عليهم .
ج- إثبات صفة الأصابع لله عزوجل من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل.
5- لأن الفتن تعرض على القلوب .
كم في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه :" تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودا عودا فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء وأي قلب اشربها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى تصير القلوب على قلبين قلب أسود مرباداً كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه وقلب أبيض فلا تضره فتنة مادامت السموات والأرض" ( 11).
"..... فشبه عرض الفتن على القلوب شيئًا فشيئًا كعرض عيدان الحصير وهي طاقاتها شيئًا فشيئًا، وقسَّم القلوب عند عرضها عليها إلى قسمين: قلبٌ إذا عرضت عليه فتنة، أشربها كما يشرب السفنج الماء، فتنكت فيه نكتة سوداء، فلا يزال يشرب كل فتنة تعرض عليه حتى يسود وينتكس، وهو معنى قوله: (كالكوز مجخيا) ، أي: مكبوبًا منكوسًا، فإذا اسود وانتكس عرض له من هاتين الآفتين مرضان خطران متراميان به إلى الهلاك،
أحدهما: اشتباه المعروف عليه بالمنكر، فلا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا، وربما استحكم عليه هذا المرض حتى يعتقد المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، والسنة بدعة والبدعة سنة، والحق باطلاً والباطل حقًّا.
الثاني: تحكيمه هواه على ما جاء به الرسول -صلى الله تعالى عليه وآله وسلم-، وانقياده للهوى واتباعه له.
وقلبٌ أبيض قد أشرق فيه نور الإيمان وأزهر فيه مصباحه، فإذا عُرضت عليه الفتنة أنكرها وردَّها، فازداد نوره وإشراقه وقوته.
والفتن التي تعرض على القلوب هي أسباب مرضها، وهي فتن الشهوات وفتن الشبهات، فتن الغي والضلال، فتن المعاصي والبدع، فتن الظلم والجهل، فالأولى: توجب فساد القصد والإرادة، والثانية: توجب فساد العلم والاعتقاد.
أ.ه (إغاثة اللهفان )
6- لأن سلامة القلب سبب لأن نكون أفضل الناس.
" أفضل الناس كل مخموم القلب صدوق اللسان . قالوا صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب قال التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد "(12). والمخموم : من خممت البيت إذا كنسته أي أنه ينظف قلبه في كل وقت بين الفينة والأخرى مما يدل على أن الأمر ليس بالسهل ولابد له من مجاهدة وصبر ولا يقوى عليه إلا الأشدّاء من الناس لذلك استحق رتبة أفضل الناس وكان عند الله بالمكانة
العليا وهذا هو حال صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أثنى الله على أخلاقهم وجعل لهم نصيباً من الفيء والغنائم فقال سبحانه :( للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم ) وهم المهاجرون ثم قال :( والذين تبوّؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون ) وهم الأنصار فيا لها من شهادة حيث يكشف الله عن مكنون صدورهم ويخبر أنهم لا يحملون في قلوبهم غلاً ولا حقداً أو حسداً على إخوانهم المهاجرين لكونهم أفضل منهم فقد جمع المهاجرون بين النصرة والهجرة .
وقال ابن رجب رحمه الله عن بعض السلف: أفضل الأعمال سلامة الصدور وسخاوة النفوس، والنصيحة للأمة وبهذه الخصال بلغ من بلغ لا بكثرة الاجتهاد في الصوم والصلاة (13)
(1) هكذا ذكر لفظها الشيخ الألباني في كتابه خطبة الحاجة/ فصل لفظ الخطبة
(2) شرح ثلاثة الأصول للشيخ بن عثيميين رحمه الله صفحة 27
(3) (حققه الألباني / السلسلة الصحيحة / حديث رقم 2648 / إسناده صحيح )
(4) (حققه الألباني /صحيح ابن ماجه / حديث رقم 191/ صحيح )
(5) (فتح الباري 1/156)
(6) الفتوى كاملة (7)
[البخاري حديث 52، ومسلم حديث 1599]
(8) (مجموع الفتاوى (14/121))
(9) ( أخرجه الترمذي /وحققه الألباني / كتاب القدر / باب ما جاء أن القلوب بين إصبعي الرحمن / حديث رقم 2140 / صحيح
(10) ( حققه الألباني / جامع الترمذي /كتاب الدعوات / باب /حديث رقم3522
/ صحيح
(11) ( أخرجه مسلم / المسند الصحيح / حديث رقم 144 / صحيح )
(12) ( حققه الألباني / السلسلة الصحيحة / حديث رقم 948 / صحيح )
(13) جزء مفرغ من خطبة( سلامة الصدر طريق إلى الجنة للشيخ/عامر بن عيسى اللهو / http://www.saaid.net/Doat/allahuo/23.htm



لا يوجد تعليقات

أضف تعليق

أرشيف المدونة الإلكترونية

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

المساهمون

مدونه اف اح