حضرة الوزير.. والدراما العربية الكاسدة

0
عند مقارنة كتّاب الدراما العرب بالغربيين لا أجد وصفا أدق لما يفعله مؤلفو المسلسلات العربية إلا أنه «لعب عيال» !!
مؤلف ساذج يستهتر بعقول المشاهدين، ويعطيهم منتجا استهلاكه ضار جدا بالصحة العقلية!
أما هناك.. في القارة الأوروبية أو الأمريكية، نرى محاولة المؤلف لإتقان عمله الذي تم تكليفه به، وعرضه في أبهى صورة ممكنة.
وسأعطيك مثالا واحدا..
الإنجليز مشهورون بمسلسلاتهم الكوميدية القصيرة التي تنضح ذكاءً.. سواء في الحبكة نفسها أو الحوار بين الشخصيات.. إلا أن المسلسلات الأمريكية تفوقهم شهرة بسبب الدعم المالي الأكبر الذي لا يمكن لدورة صغيرة حاليا كبريطانيا أن تقدم ما يوازيه (خصوصا بعد أن فقدت إمبراطوريتها)
وما يفقده الإنجليز في البهرجة مرتفعة الثمن، يعوضونه في الجوانب الأخرى. فتجد المواضيع التي تعالجها الدراما الإنجليزية أكثر أهمية بمراحل من مثيلتها الأمريكية.

في الثمانينيات، قامت تليفزيون الـ BBC بإنتاج عدة مواسم من مسلسل (نعم يا حضرة الوزير) الذي خلط بين السياسة والكوميديا بنجاح غير مسبوق.. وإلى اليوم لا أعرف له نظيرا!
والسبب هو جرأة وصراحة تعليق المسلسل على الواقع السياسي العالمي وقتها.. وكيف يتم تحريك السياسة الداخلية والخارجية عن طريق تلاعب موظفي الحكومة بعقول الشعب، عن طريق الكذب السياسي المحترف، والصحافة الموجهة، وإلهاء الشعب بالفرعيات.

وبعد نجاح المسلسل تم إنتاج حلقات جديدة بنفس الشخصيات الثلاث الأساسية، مع ترقية شخصية الوزير إلى رئيس الوزراء.

هنا سأعرض عليك محتوى حلقة واحدة من مسلسل Yes Minister لترى كيف نجح المؤلف في تقديم 3 قصص متداخلة في نصف ساعة فقط، هي مدة الحلقة الرابعة من الموسم الثالث!

عنوان الحلقة: The Moral Dimension (البعد الأخلاقي)
وتعالج مسألة الفساد الأخلاقي في أروقة الحكومات، وارتباط هذا بالعالم العربي.
شخصيات المسلسل:
وزير الشؤون الإدارية: هاكر
مساعد مكتب الوزير: سير همفري
المساعد الشخصي للوزير: برنارد

تبدأ الحلقة والوزير على طائرة حكومية مسافرة إلى بلد عربي خليجي نفطي يسمى (قمران) ، ومعه همفري وبرنارد وزوجته، لحضور توقيع عقد كبير بين الحكومة البريطانية والحكومة قمران العربية.
يتم إخبار الوزير أن الحفل الرسمي لن يُسمح فيه بشرب الخمور، بسبب القوانين الإسلامية، مما يصيبه - وبقية الموظفين - بعدم الارتياح.. إلا أنه يقترح خطة كوميدية لحل الموقف!
أن يتم استدعاؤه أثناء الحفل الرسمي إلى حجرة خاصة بالسفارة البريطانية المجاورة، تحت إدعاء تلقيه مكالمة تليفونية مفاجئة، يقوم هو خلال هذا الوقت باحتساء رشفات سريعة من الخمر "تساعده" على تمضية الوقت دون الإساءة بشكل علني للحكومة العربية المستضيفة. وتنجح الخطة.
أثناء الحفل تتلقى زوجة الوزير هدية رسمية من الوزير العربي، في شكل آنية زهور أثرية، لكن برنارد يصدمها عندما يخبرها أن الهدايا يتم تسليمها للحكومة البريطانية ولا يُسمح للوزير بالاحتفاظ بها ما دامت غالية الثمن.
وهنا تقوم الزوجة بالإيحاء لبرنارد بضرورة حل الموقف. فيقوم أحد الموظفين العرب بالتطوع بكتابة تقرير "تثمين" مزيف يقول أن الإناء مجرد تقليد وليس حقيقيا، مما سيسمح بالتالي بجعل ثمنه في الأوراق الرسمية مجرد 50 جنيه بدلا من 5 آلاف جنيه!
لكن أثناء هذا يتلقى برنارد صدمة أخرى عندما يعرف أن العقد المبرم بين الحكومتين اعتمد على تقديم الإنجليز لرشوة مقدارها مليون جنيه، تم توزيعها على الوزير العربي وموظفيه، كإجراء تقليدي يحدث دائما في الصفقات العربية-الأجنبية!!

بعد عودة الوزير لبريطانيا، حدث أن إحدى الجرائد كتبت مقالا تكشف فيه أن الجكومة البريطانية كسبت العقد مع الحكومة القمرانية العربية عن طريق رشوة!
مما جعل من الضروري على مكتب الوزير أن يقدم تبريرا منمقا للصحافة لمسألة المليون جنيه، مع نفي تقديم أي رشوة.

وهنا نعرف في حوار بين همفري والوزير أن الوزير لم يكن على علم بمسألة الرشوة، وأن الحكومة البريطانية تعتبر هذا أسلوب العمل الوحيد مع البلاد العربية التي يسودها الفساد الحكومي. وهنا يقرر الوزير أنه سيرفض الاستمرار في هذه الصفقة المشبوهة، ويقول أن عنده "بعدا أخلاقيا" للمسألة لن يحيد عنه.

مما سيسبب بالطبع إحراجا للحكومة البريطانية بشكل عام إن تأكدت الصحافة من موضوع الرشاوي.

لكن الحبكة تتعقد عندما يعرف الوزير أن الصحافية التي ستسأله عن مسألة الرشوة ستسأله أيضا عن سبب احتفاظ زوجته بإناء أثري كان يجب أن يتم تسليمه لعهدة الحكومة!!
وبالطبع لا يمكن أن يكذب عليها ويخبرها أنه إناء تقليد ومزيف، لأن هذا الكلام سيغضب حكومة قمران ويجعلهم يظهرون في صورة من يقدمون هدايا رسمية مزيفة قليلة القيمة!

وهنا يحاول الوزير الاحتفاظ بنقائه الأخلاقي للنهاية، ما دامت مسألة الرشوة لم يكن هو أصلا على علم لها ولم يكن مشتركا فيها، وما دامت مسألة الإناء الأثري هي نتاج اتفاق زوجته مع برنارد، دون علم الوزير بأن تقرير التثمين كان مزيفا.
لكن سير همفري يتدخل، بحركة مضادة تجبر الوزير على "مجاراة" التيار، وأن يترك المسار الأخلاقي الذي يتظاهر بالتمسك به.
كيف؟؟
قال همفري - بطريقة ماكرة - أنه اقتنع تماما بما يقوله الوزير، وأن الصراحة وإلتزام البعد الأخلاقي هي أمور فائقة الأهمية، ولهذا سيريح همفري ضميره الشخصي بأن يذهب للصحافة معترفا بما فعله الوزير من خداع للحكومة القمرانية أثناء الحفل، وأنه شرب الخمر في السر!!

وكتنت هذه هي القشة التي قسمت ظهر بعير الوزير. إذ سرعان ما تخلى عن أي "بعد أخلاقي" وطلب من همفري الكتمان، وقال أنه سيحل المسألة بأسلوب سياسي "ماكر"

لما جاءت الصحفية استخدم الوزير معها أسلوب نابليون حين يكون الجيش في حالة ضعف، (الهجوم خير وسيلة للدفاع) ، وسارع بنفي وجود أي رشوة، وأكد لها أن كل المصروفات كانت مبررة قانونا ومشروعة، وأن الصحافة البريطانية بأسلوبها التفتيشي هذا تؤدي لإضعاف الاقتصاد البريطاني وتشوبه سمعته في الخارج!
فاضطربت الصحفية أمام هذا الهجوم، وقررت حذف موضوع الرشوة، ودخلت في موضوع الإناء الأثري الموجود بمنزل الوزير.
فكان رده الحاسم هو أن الإناء موجود في بيته بشكل مؤقت فقط، وأن إشاعة أن إناء مزيف كان غرضها حماية هذا الأثر من طمع اللصوص إلى أن يتم تسليم الإناء للحكومة البريطانية لتودعه في المتحف البريطاني!
فكانت النتيجة أن الصحفية قررت حذف هذا الموضوع أيضا، وخرجت من المكتب بخفي حُنين، وبلا أي اتهامات ضد الوزير!

وهنا تنتهي الحلقة.

=====

والآن، هل يمكن لمؤلف عربي أن يقدم كل هذه الخطوط الدرامية في شكل كوميدي مكثف (28 دقيقة) كما فعل مؤلفو هذه الحلقة؟!!
أشك بشدة.

لا يوجد تعليقات

أضف تعليق

أرشيف المدونة الإلكترونية

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

المساهمون

مدونه اف اح