تاريخ اليهود والعراق

0
تاريخ اليهود مرتبط بالعراق. هذه حقيقة يعرفها كل دارس لفترة السبي البابلي وما بعدها.
لكن الكثير من الأخطاء الشائعة والمفاهيم المغلوطة والمعلومات المنقوصة تسود كتابات المؤلفين في هذا الموضوع.
لهذا لنفع الدارسين والباحثين والمهتمين، سأضع هنا ملخصا لتاريخ اليهود في العراق، مع ربطه بتاريخهم في فلسطين.

موسوعة ويكيبيديا بها مقال طويل عن الموضوع، اسمه History of the Jews in Iraq ، لكنه مبعثر، ويركز على فترات معينة دون الأخرى. لكنه جهد مشكور، ويعد نقطة بداية جيدة ينطلق منها الباحثون.


بعد موت سليمان عليه السلام، وانتهائه من بناء بيت الرب المسمى عند اليهود بالهيكل Temple تنازع اليهود فيما بينهم، وظهر بينهم الكفر. فانقسموا قسمين، مملكة الجنوب ظلت أقرب لليهودية الصحيحة، في حين انحرفت مملكة الشمال.
انظر مقال http://en.wikipedia.org/wiki/Kingdom_of_Judah
مملكة الجنوب تكونت من سبط يهوذا وسبط بنيامين، وكهنة اللاويين. وكان الهيكل تحت سيطرتها. أما مملكة الشمال فلم تهتم بالهيكل، بل تأثرت بالقبائل الوثنية الكنعانية والفينيقية.
وتكونت مملكة الشمال من باقي الأسباط، أي القبائل العشرة المنبثقين من أبناء نبي الله يعقوب.
مملكة الجنوب معروفة باسم مملكة يهوذا، ومملكة الشمال معروفة باسم مملكة إسرائيل.
ولأن انحراف مملكة الشمال كان أعظم من انحراف مملكة الجنوب، فعاقب الله مملكة الشمال بأن أرسل عليهم الأشوريين الوثنيين فدمروا مملكة إسرائيل سنة 722 ق.م (القرن الثامن قبل الميلاد) وأخذوا اليهود أسرى لمملكة أشور.
هذه القبائل العشرة المسبية ضاعت تاريخيا.. أي اندمجت تماما في بيئتها الجديدة ونست أصولها اليهودية ونست عبادة الله، وتحولوا لجزء طبيعي من سكان أشور.
ولما زاد انحراف يهود مملكة الجنوب، بعث عليهم الله البابليين الوثنيين ليؤدبوهم ويعاقبوهم. فنهب البابليون جزءا من ذهب الهيكل سنة 597 ق.م وأخذوا بعض الأشراف أسرى. ثم جاءوا مرة أخرى سنة 586 ق.م ودمروا الهيكل تماما، وأخذوا باقي الكهنة والأشراف والأغنياء أسرى إلى بابل في العراق، وتركوا الفقراء وباقي بني إسرائيل بلا هيكل ولا قادة.
وهي الكارثة الكبرى في التاريخ اليهودي المعروفة بالسبي البابلي.
يحلو لليهود القول أن فترة السبي استمرت 70 سنة كاملة، لأنه عدد ذو مغزى في نبوءاتهم، لكن الاكتشافات التاريخية تشير إلى أن السبي انتهى سنة 538 ق.م، أي مجرد 50 أو 60 سنة تقريبا.
وهذه أول أسطورة يجب للدارس أن يعرف حقيقتها، كي لا ينخدع بطريقة اليهود في تغيير التواريخ لتناسب أسلوبهم الروائي الدرامي في سرد الأحداث.
ثاني مسألة يجب التنبه لها هي انسياق بعض الباحثين خلف الفكرة العامة دون الانتباه للتفاصيل. فالسرد الروائي لقصة السبي قد يوحي لغير المدقق أن "كل" اليهود قد تم سبيهم لبابل.. وهذا مخالف للحقيقة.
وقد يوحي أيضا أن "كل" الأسرى المسبيين عادوا من السبي بعد أن انتهت فترة السبي البابلي.. وهذا أيضا مخالف للحقيقة، ومجرد دعاية صهيونية حديثة!!

فالحقيقة هي أن الكثير من "الأسرى" أعجبتهم الحضارة البابلية الوثنية العراقية فقرروا الاستقرار هناك. اشتروا أراضٍ زراعية وبيوت وكونوا أسرا وعائلات.. فلما انهارت الامبراطورية البابلية على يد الفرس، وقام الملك الفارسي الوثني قورش بالسماح لليهود بالعودة لبلادهم فلسطين، رفض كثير من اليهود ترك العراق!!
أما من عادوا فهم طبقة الكهنة وأتباعهم الذين كانوا على يقين من أنهم سيعودون لوضع اجتماعي جيد، لأن الهيكل سيتم بناؤه من جديد، وبالتالي ستعود لهم مكانتهم الاجتماعية والمالية المفقودة التي كانت تدمرت مع تدمير الهيكل السليماني!!
والصهاينة يؤسسون حركتهم السياسية على مسألة أن يهود العالم في الشتات كانوا يحلمون طول حياتهم بيوم العودة لإسرائيل.. ولهذا يتجنبون ذكر مسألة رفض يهود بابل العودة لفلسطين في القرن السادس قبل الميلاد، لأنها حقيقة تاريخية محرجة لهم!

عندما أصدر قورش الفارسي مرسومه بالسماح لليهود المسبيين بالعودة لفلسطين، اعتبره اليهود مخلصهم، وأنه رحمة أرسلها الله إليهم. وللأسف هذا الإعجاب اليهودي بالفارسيين ستكون له عواقب فيما بعد.

عاد بعض اليهود وبدأوا في إعادة بناء الهيكل. جيرانهم عرقلوهم بعض الوقت، لكن الفرس ساندوا اليهود في تجديد مدينة أورشليم وأسوارها وهيكلها.
هذا الهيكل الثاني يعتبر المرحلة التالية للديانة اليهودية. حيث سيطر الكهنة والكتبة والأحبار على عقلية الشعب اليهودي، وأعادوا صياغتها بأسلوب جديد. هذا الأسلوب الجديد جاء نتيجة تغير أفكار اليهود في فترة السبي، حيث نظروا بعداء للإله الذي عاقبهم!
فبدلا من أن تكون ردة فعلهم هي التوبة عن ذنوبهم التي تسببت أصلا في عقابهم، قرروا بينهم أن الإله شرير! وهذه الفكرة الكفرية هي أساس العقيدة الغنوصية الباطنية التي ظهرت فيما بعد.
ويقول أغلب دارسي النص التوراتي أن التوراة الحالية تمت كتابتها في فترة السبي وما بعدها.. ولهذا نجدها تصور الإله بصفات لا تناسب جلاله وعظمته.
فكل ما في التوراة من تحريف وأكاذيب يمكن أن يكون نتاج العقلية الباطنية التي سيطرت على سادة اليهود وأحبارهم بعد صدمة السبي.
أي أن التوراة لم تكن محرفة وقت ما كان داود وسليمان يحكمان اليهود، حوالي 1000-900 قبل الميلاد، لكن التحريف بدأ مع انقسام الدولة لمملكتين، ثم مع فترة السبي، ثم فترة الهيكل الثاني.

بقي جزء كبير من اليهود في بابل العراقية تحت مظلة الحكم الفارسي الإيراني.. وبهذا انقسم الوجود اليهودي بين يهود بابليين ويهود فلسطينيين، أيام الاسكندر، أي حوالي 333 ق.م
في بابل كان اليهود تحت النفوذ الفارسي، وفي فلسطين كانوا تحت النفوذ الإغريقي، نفوذ اليونان الهلينيين ورثة الإسكندر.
سنة 167 ق.م حاول يهود فلسطين القيام بثورة مسلحة ضد الإغريق لأن اليونان دنسوا الهيكل بتماثيل وثنية وقرابين هي عبارة عن خنازير، ونجحت الثورة لفترة تسمى فترة المكابيين، تحت قيادة يهوذا المكبة (أي المطرقة) ، وصار لليهود شبه استقلال تحت حكم المكابيين الحشمونيين. لكن روما ورثت مملكة اليونان، فوقعت فلسطين تحت الحكم الروماني.
وهي الفترة التي ظهر فيها عيسى. حيث كان اليهود واقعين تحت نفوذ قيصر روما الروماني الوثني.
لما كفر اليهود برسالة عيسى عليه السلام، يقول الإنجيل أنه توعدهم بأن هيكلهم هذا سيتم تدميره مرة أخرى بحيث لا يوجد منه حجر واحد فوق الآخر.. أن ستتم مساواته بالأرض.
وهو ما حدث فعلا عندما ثار اليهود مرة أخرى ضد روما، فدخل تيطوس الروماني فلسطين ودمر الهيكل الثاني، فهرب جزء كبير من اليهود إلى إخوانهم في الشتات، في الاسكندرية المصرية وبابل العراقية.. سنة 70 م
وبقي جزء من اليهود في فلسطين لفترة، ثم أصدر الرومان قرارا بتحريم بقاء أي يهودي في أورشليم.

وكما بدأ اليهود تحريف التوراة بعد التدمير الأول للهيكل، بدؤوا في تحريف الشريعة من جديد بعد التدمير الثاني للهيكل! فالتلمود استمر تأليفه من 200 ميلاديا إلى 500 ميلاديا، ثم استمر تنقيحه إلى حوالي 700 م، أي حتى بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم.
فالرسول وُلد 571 م تقريبا، وبدأت بعثته 610 ، ثم هاجر للمدينة 622 ، ومات 632 م

التلمود ينقسم لجزئين، مشنا وجمارا. وهناك جمارا فلسطينية كتبها حاخام اليهود القاطنين حول أورشليم، وهي قليلة الأهمية.. وهناك جمارا بابلية كتبها حاخامات اليهود العراقيين، وهي المهمة التي يعتبرها اليهود مصدرهم الأساسي للتشريع والمعاملات.
وهذا التلمود البابلي كتبه اليهود وهم يعيشون تحت الحكم الفارسي الزرادشتي المجوسي الوثني. لهذا لا تتعجب حين ترى أن اليهود كانوا يساندون الفرس في حروبهم ضد الروم، في حين أن المنطق كان يستدعي أن يقف اليهود مع الروم المسيحيين لأنهم على الأقل أقرب لهم دينيا من الفرس المجوس!
لكن اليهود نظروا للروم بكراهية وحقد وعداء، لأن تيطوس الروماني الوثني هو من هدم الهيكل الثاني، ولأن روما بعد أن تحولت للمسيحية نظرت لليهود بعداء واضطهدتهم لأنهم "قتلوا المسيح ابن الرب" كما يؤمن النصارى.
-----
وإلى اليوم يوجد يهود في إيران الفارسية، وتعاملهم الحكومة الشيعية أفضل مما تعامل أهل السنة المسلمين!!
وطبعا العراق بعد الاحتلال الأمريكي عادت للسيطرة الشيعية.. وهو وضع مريح لليهود بشكل عام، لأن الحقيقة أن اليهود ينظرون للشيعة ولإيران بنظرة أفضل مما ينظرون للسُنة.
والعداء السياسي الظاهري بين إيران وإسرائيل ليس عداءا حقيقيا، بل مجرد منافسة على النفوذ كالتي كانت بين إنجلترا وفرنسا أيام الاستعمار الأوروبي لبلاد المسلمين. فهي منافسة لها حدود معينة.
والدليل أن يهود إيران ينعمون بالأمن تحت الحكم الشيعي. بل أن الرسول أخبرنا أن أتباع المسيح الدجال سيكونون 70 ألفا من يهود أصفهان الإيرانية. أي أن الوجود اليهودي في إيران سيستمر في المستقبل.
-----

تفاعل المسلمون مع اليهود في البداية أثناء الفترة المدنية، حيث وجد الرسول أن مدينة يثرب بها قبائل يهودية كبيرة تتكلم العربية.
ثم تفاعل المسلمون مع اليهود مرة أخرى عندما فتحوا بلاد الفرس، العراق وإيران، فوجدوا لليهود تجمعات كبيرة هناك. ودارت مناقشات بين المفسرين المسلمين والكتبة اليهود، ومنها استفدنا الإسرائيليات، أي القصص التي وردت إلينا عن تاريخ بني إسرائيل وعقائدهم ومؤلفاتهم.
وعاش اليهود كأهل ذمة في بغداد العراقية تحت حكم الخلافة الإسلامية، إلى أن جاءت كارثة الغزو المغولي الذي شردهم في البلاد مرة أخرى.
ويعتبر اليهود أن أزهى عقودهم التاريخية هي الفترة التي عاشوها تحت الحكم الإسلامي في الأندلس وفي مصر، حيث ازدهرت كتاباتهم وحركة الحياة العلمية العقلية اليهودية.. وهي فترة انتهت بكارثة أخرى عندما ضاعت الأندلس عندما استردها الكاثوليك من المسلمين في القرن الـ 15 الميلادي، فهاجر اليهود للمغرب العربي، ثم سمح لهم السلطان العثماني بالتجمع في مدينة سالونيك العثمانية.
وبعد 400 من عطفه عليهم، رد اليهود الجميل بأن تآمروا على إنهاء الخلافة العثمانية، فكانت سالونيك من معاقل تمرد الجيش التركي على الخليفة السلطان عبد الحميد الثاني. بل أن أحد أفراد الوفد الذي أبلغه بقرار عزله كان يهوديا! ثم حبسوه في قصر في مدينة سالونيك، نكاية فيه، لأنه رفض إعطاء فلسطين لهرتزل مؤسس الحركة الصهيونية.

لا يوجد تعليقات

أضف تعليق

أرشيف المدونة الإلكترونية

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

المساهمون

مدونه اف اح