بكل همة ونشاط استيقظت هذا الصباح ثم قررت أن أذهب في رحلة قصيرة لحديقة الحيوان!
ولا أريد أن تخدعك هذه الجملة الافتتاحية فتتصور أني من ذلك النوع من البشر الذي يقوم بالأمور بعفوية ودون تخطيط.. فقرار هذه الرحلة ظل يختمر في الذهن لفترة غير قصيرة، إلى أن صار التأجيل أكثر من هذا شيئا لا يحتمل.
فعلى الرغم من القرب النسبي للمكان من منزلي، إلا أني كأغلب أهل الإسكندرية قلما أزورها.
وربما يعود سبب هذه الندرة في الزيارة لكثرة مشاغلهم أو لاضطراب الحياة عامة في مصر الآن.. لكن السبب الحقيقي في ظني هو فقدان المصريين للقدرة على الاستمتاع بالأشياء الحياتية البسيطة. وهو شيء ينبع عادة من داخل الإنسان ويختلف من مجتمع لآخر. ففي حين لا يشعر المواطن الأمريكي بالإشباع إلا بمجاوزة الحد في الترفيه والسهر والشرب والأكل إلخ، نجد المواطن الياباني التقليدي يمكن أن تكفيه زيارة قصيرة لحدائق الزهور اليابانية الشهيرة لتعطيه شعورا بالسعادة يكفيه طوال الأسبوع!
لكن دعني لا أنجرف مع تيار المواضيع الجانبية، لأعود وأركز على أحداث هذا اليوم.
في الثامنة والربع صباحا بدأت رحلتي. وما يجعلني أتذكر الوقت بهذه الدقة هو توقف أحد سائقي التاكسي أمامي فجأة ليسألني (يا شيخ، لو سمحت.. الساعة كام؟)
((سبب كلمة ’شيخ‘هو اللحية، بطبيعة الحال!))
وكعادتي ركبت عربة (اترام الكهربائي الصفراء) وما هي إلا بضعة محطات حتى وجدتني بقرب السور الطويل المحيط بالحديقة.
((لاحظت أن تعريفة الترام ارتفعت من 25 قرشا إلى 50 قرشا، وهو أمر توقعته بعد أن بدأوا منذ فترة في رفع ثمن التذكرة لـ 50 قرشا في الفترة المسائية، كتمهيد وتكييف للجماهير بالتدريج. يبدو أن الحكومة المصرية فهمت أخيرا كيف تتعامل مع شعبها لتمنع المزيد من الاحتجاجات على زيادة الأسعار!))
تحت الشمس الحارقة مشيت إلى أن وصلت للبوابة الخضراء لحديقة حيوان الاسكندرية. الفتاة التي تعمل على البوابة أعطتني التذكرة (3 جنيهات). ولما خطوت أولى خطواتي داخل المكان تنبهت إلى أني وصلت مبكرا. فالعمال ما زالوا يرشون المكان بالماء، والحيوانات تتمطى وهي في حالة كسل صيفي، والمكان شبه فارغ إلا من أشخاص متفرقين هنا وهناك.
وبطبيعة الحال زادني خلو المكان سعادة. فلا أسخف من أن تقف تتأمل قرد البابون في صمت لفترة طويلة وأنت محاط بجموع غفيرة من العائلات والأطفال المشاغبين وزوار يتحدثون في صوت مرتفع يطغى على قدرتك على التمتع باللحظة.
((بالمناسبة، إحدى قردة البابون كانت هذه المرة ترمقني بطرف عينها في نظرات مختلسة وهي منهمكة في تقشير حبوب شيء يشبه الفول السوداني. لا أعرف الدافع الحقيقي وراء هذه الحركة حتى الآن. هل كانت تخشى أن أقتحم عليها قفصها الحديدي لأسرق طعامها؟!))
وقفت بعض الوقت أمام بحيرة البجع وطيور التم والبط. لي ذكريات جميلة في هذا المكان على مر السنين، آخرها يوم وقفنا نقذف قطع الخبز والسندوتشات للطيور فأصابتها حالة هياج وتدافع على الطعام بشكل شبه هيستيري!
بالطبع وجدت مكان الزرافة على حاله كما عهدته.. خاليا منذ أن ماتت الزرافة التي كانت تملكها الحديقة. ويبدو أن نفس الشيء حدث مع الفيل.
لم أدخل بيت الزواحف فهو ممل كعادته، والثعابين فيه أشبه بالتماثيل الساكنة، لا تتفاعل مع الجمهور!. ولم يكن بيت السباع (الأسد) قد فتح أبوابه بعد. أظن الأسود كانت تتناول وجبتها الصباحية، وإن كنت رأيت أحدها قد خرج من القفص ليستريح قليلا على الصخرة المخصصة له. فالأسود بطبيعتها كسولة وتنام أغلب يومها، وتعتمد على الإناث في الصيد وجلب الطعام!
لكن المشهد الذي أثر في نفسي فعلا هو الضبع.
الحيوان صاحب السمعة السيئة - (سبع ولا ضبع؟) - والذي رأيت في عينيه وحركاته ملامح الانكسار والهزيمة، وهو ’محشور‘ داخل قفص حديدي صغير يسعه بالكاد.
لا أعلم لم يعاقبونه بهذه الطريقة.. فأي حيوان من حقه أن يتمتع بمساحة للحركة وتمديد عضلاته. خاصة وهو حيوان مفترس مثل الضبع. لو كانت عندنا جماعات حقوق الحيوان لما سكتت على هذا الوضع.
وجدت مكان الظبي خاليا، لكن رأيت الغزال المصري الصحراوي الجميل، وحيوان اللاما (الذي يشبه الجمل لكن دون سنام)، وكان يهز رأسه بقوة كل بضعة ثوانٍ ليبعد الذباب الذي يحيط بعينيه.
رأيت أيضا طيور الطاووس في موسم التزاوج، وهي تفرد ريشها المميز لتثير إعجاب الطرف الآخر!.. ثم تنبهت لوجود الظباء الجبلية في مكان مختلف يتطلب صعود عدة درجات للوصول إليه. كم هو مريح للنفس مشاهدة هدوء هذه الحيوانات ومتابعة أسلوب حياتها البسيط المتسم بالسكينة والتلقائية وربما أيضا بالحكمة!.. على عكس كثير من بني البشر الذين أعرفهم.
وبعد نهاية جولتي السريعة انتقلت لحديقة (النزهة) الواسعة الأرجاء، وكانت بعض الرحلات العائلية قد بدأت في القدوم للمكان. ولما كنت لم أجلس منذ حوالي الساعة فدخلت حديقة أنطونيادس المعتنى بها بشكل أفضل، والحافلة بالخضرة والأشجار والكثير من الحشرات أيضا!
الانتقال من حديقة الحيوان إلى داخل حديقة النزهة يكلف جنيها واحدا، والوصول لحديقة أنطونيادس يكلف زوجا آخر من الجنيهات. فيكون مجموع ما دفعته في نهاية الأمر مجرد 6 جنيهات مصرية لا غير! (بالإضافة طبعا لـ 2 جنيه لزوم السناكس - شيتوس -)
وبعد التجول في الحديقة والاغتراف من جمال المكان وخلوه من المنغصات البشرية التي تحيط بنا في العادة، جلست على كرسي تحت شجرة في الظل، وفتحت كتابا لأقرأه!
اسم الكتاب هو مسرحية حكاية الشتاء لشيكسبير، ترجمة د\ محمد عناني، وكان الفصل الذي وصلت له يحكي قصة المحتال أتوليكس في مدينة بوهيميا، والذي تعود سرقة الملاءات التي تتركها ربات البيوت على الشجيرات لتجف.
وهو كما ترى موضوع مناسب - بطريقة غير مقصودة - للمكان المحاط بالعديد من الأشجار والشجيرات!
أما رحلة العودة فكانت تشبه كثيرا رحلة الذهاب، لم يزد عليها إلا التوقف قليلا عند محل عصير لشرب كوب من الخروب المثلج، لمقاومة الحر الشديد وتعويض العرق.. خصوصا ونحن في نهاية شهر مايو وبداية جو الصيف السكندري.
كان هذا تقريرا شبه مفصل لزيارتي لحديقة الحيوان، وهو في ظني شيء لا يستحق التدوين، ولا يمثل لك أي أهمية.. لكني شعرت فور عودتي برغبة في تسجيل أحداث اليوم، ونحن على مشارف أيام عصيبة في مصر، سياسيا وأمنيا. فنشوب ثورة أخرى هو أمر غير مستبعد على الإطلاق، لكل من يتابع الأحداث الأخيرة، مما قد يصعب معه القيام بزيارة مماثلة مرة أخرى!
سلامة المصري
31 مايو 2012
ولا أريد أن تخدعك هذه الجملة الافتتاحية فتتصور أني من ذلك النوع من البشر الذي يقوم بالأمور بعفوية ودون تخطيط.. فقرار هذه الرحلة ظل يختمر في الذهن لفترة غير قصيرة، إلى أن صار التأجيل أكثر من هذا شيئا لا يحتمل.
فعلى الرغم من القرب النسبي للمكان من منزلي، إلا أني كأغلب أهل الإسكندرية قلما أزورها.
وربما يعود سبب هذه الندرة في الزيارة لكثرة مشاغلهم أو لاضطراب الحياة عامة في مصر الآن.. لكن السبب الحقيقي في ظني هو فقدان المصريين للقدرة على الاستمتاع بالأشياء الحياتية البسيطة. وهو شيء ينبع عادة من داخل الإنسان ويختلف من مجتمع لآخر. ففي حين لا يشعر المواطن الأمريكي بالإشباع إلا بمجاوزة الحد في الترفيه والسهر والشرب والأكل إلخ، نجد المواطن الياباني التقليدي يمكن أن تكفيه زيارة قصيرة لحدائق الزهور اليابانية الشهيرة لتعطيه شعورا بالسعادة يكفيه طوال الأسبوع!
لكن دعني لا أنجرف مع تيار المواضيع الجانبية، لأعود وأركز على أحداث هذا اليوم.
في الثامنة والربع صباحا بدأت رحلتي. وما يجعلني أتذكر الوقت بهذه الدقة هو توقف أحد سائقي التاكسي أمامي فجأة ليسألني (يا شيخ، لو سمحت.. الساعة كام؟)
((سبب كلمة ’شيخ‘هو اللحية، بطبيعة الحال!))
وكعادتي ركبت عربة (اترام الكهربائي الصفراء) وما هي إلا بضعة محطات حتى وجدتني بقرب السور الطويل المحيط بالحديقة.
((لاحظت أن تعريفة الترام ارتفعت من 25 قرشا إلى 50 قرشا، وهو أمر توقعته بعد أن بدأوا منذ فترة في رفع ثمن التذكرة لـ 50 قرشا في الفترة المسائية، كتمهيد وتكييف للجماهير بالتدريج. يبدو أن الحكومة المصرية فهمت أخيرا كيف تتعامل مع شعبها لتمنع المزيد من الاحتجاجات على زيادة الأسعار!))
تحت الشمس الحارقة مشيت إلى أن وصلت للبوابة الخضراء لحديقة حيوان الاسكندرية. الفتاة التي تعمل على البوابة أعطتني التذكرة (3 جنيهات). ولما خطوت أولى خطواتي داخل المكان تنبهت إلى أني وصلت مبكرا. فالعمال ما زالوا يرشون المكان بالماء، والحيوانات تتمطى وهي في حالة كسل صيفي، والمكان شبه فارغ إلا من أشخاص متفرقين هنا وهناك.
وبطبيعة الحال زادني خلو المكان سعادة. فلا أسخف من أن تقف تتأمل قرد البابون في صمت لفترة طويلة وأنت محاط بجموع غفيرة من العائلات والأطفال المشاغبين وزوار يتحدثون في صوت مرتفع يطغى على قدرتك على التمتع باللحظة.
((بالمناسبة، إحدى قردة البابون كانت هذه المرة ترمقني بطرف عينها في نظرات مختلسة وهي منهمكة في تقشير حبوب شيء يشبه الفول السوداني. لا أعرف الدافع الحقيقي وراء هذه الحركة حتى الآن. هل كانت تخشى أن أقتحم عليها قفصها الحديدي لأسرق طعامها؟!))
وقفت بعض الوقت أمام بحيرة البجع وطيور التم والبط. لي ذكريات جميلة في هذا المكان على مر السنين، آخرها يوم وقفنا نقذف قطع الخبز والسندوتشات للطيور فأصابتها حالة هياج وتدافع على الطعام بشكل شبه هيستيري!
بالطبع وجدت مكان الزرافة على حاله كما عهدته.. خاليا منذ أن ماتت الزرافة التي كانت تملكها الحديقة. ويبدو أن نفس الشيء حدث مع الفيل.
لم أدخل بيت الزواحف فهو ممل كعادته، والثعابين فيه أشبه بالتماثيل الساكنة، لا تتفاعل مع الجمهور!. ولم يكن بيت السباع (الأسد) قد فتح أبوابه بعد. أظن الأسود كانت تتناول وجبتها الصباحية، وإن كنت رأيت أحدها قد خرج من القفص ليستريح قليلا على الصخرة المخصصة له. فالأسود بطبيعتها كسولة وتنام أغلب يومها، وتعتمد على الإناث في الصيد وجلب الطعام!
لكن المشهد الذي أثر في نفسي فعلا هو الضبع.
الحيوان صاحب السمعة السيئة - (سبع ولا ضبع؟) - والذي رأيت في عينيه وحركاته ملامح الانكسار والهزيمة، وهو ’محشور‘ داخل قفص حديدي صغير يسعه بالكاد.
لا أعلم لم يعاقبونه بهذه الطريقة.. فأي حيوان من حقه أن يتمتع بمساحة للحركة وتمديد عضلاته. خاصة وهو حيوان مفترس مثل الضبع. لو كانت عندنا جماعات حقوق الحيوان لما سكتت على هذا الوضع.
وجدت مكان الظبي خاليا، لكن رأيت الغزال المصري الصحراوي الجميل، وحيوان اللاما (الذي يشبه الجمل لكن دون سنام)، وكان يهز رأسه بقوة كل بضعة ثوانٍ ليبعد الذباب الذي يحيط بعينيه.
رأيت أيضا طيور الطاووس في موسم التزاوج، وهي تفرد ريشها المميز لتثير إعجاب الطرف الآخر!.. ثم تنبهت لوجود الظباء الجبلية في مكان مختلف يتطلب صعود عدة درجات للوصول إليه. كم هو مريح للنفس مشاهدة هدوء هذه الحيوانات ومتابعة أسلوب حياتها البسيط المتسم بالسكينة والتلقائية وربما أيضا بالحكمة!.. على عكس كثير من بني البشر الذين أعرفهم.
وبعد نهاية جولتي السريعة انتقلت لحديقة (النزهة) الواسعة الأرجاء، وكانت بعض الرحلات العائلية قد بدأت في القدوم للمكان. ولما كنت لم أجلس منذ حوالي الساعة فدخلت حديقة أنطونيادس المعتنى بها بشكل أفضل، والحافلة بالخضرة والأشجار والكثير من الحشرات أيضا!
الانتقال من حديقة الحيوان إلى داخل حديقة النزهة يكلف جنيها واحدا، والوصول لحديقة أنطونيادس يكلف زوجا آخر من الجنيهات. فيكون مجموع ما دفعته في نهاية الأمر مجرد 6 جنيهات مصرية لا غير! (بالإضافة طبعا لـ 2 جنيه لزوم السناكس - شيتوس -)
وبعد التجول في الحديقة والاغتراف من جمال المكان وخلوه من المنغصات البشرية التي تحيط بنا في العادة، جلست على كرسي تحت شجرة في الظل، وفتحت كتابا لأقرأه!
اسم الكتاب هو مسرحية حكاية الشتاء لشيكسبير، ترجمة د\ محمد عناني، وكان الفصل الذي وصلت له يحكي قصة المحتال أتوليكس في مدينة بوهيميا، والذي تعود سرقة الملاءات التي تتركها ربات البيوت على الشجيرات لتجف.
وهو كما ترى موضوع مناسب - بطريقة غير مقصودة - للمكان المحاط بالعديد من الأشجار والشجيرات!
أما رحلة العودة فكانت تشبه كثيرا رحلة الذهاب، لم يزد عليها إلا التوقف قليلا عند محل عصير لشرب كوب من الخروب المثلج، لمقاومة الحر الشديد وتعويض العرق.. خصوصا ونحن في نهاية شهر مايو وبداية جو الصيف السكندري.
كان هذا تقريرا شبه مفصل لزيارتي لحديقة الحيوان، وهو في ظني شيء لا يستحق التدوين، ولا يمثل لك أي أهمية.. لكني شعرت فور عودتي برغبة في تسجيل أحداث اليوم، ونحن على مشارف أيام عصيبة في مصر، سياسيا وأمنيا. فنشوب ثورة أخرى هو أمر غير مستبعد على الإطلاق، لكل من يتابع الأحداث الأخيرة، مما قد يصعب معه القيام بزيارة مماثلة مرة أخرى!
سلامة المصري
31 مايو 2012