قمت منذ فترة بما يمكن تسميته بعملية "فك شفرة" لأحد أهم ألغاز سِفر حزقيال التوراتي..
فقرات وقف أمامها كثير من الباحثين اليهود والنصارى، إلا أن فهمها لا يتم إلا بعد الاعتراف بأن النص بشري محرّف.. ولهذا استغلق فهمها عليهم..
لن أطيل في تفاصيل المسألة ولا مقدماتها؛ لأن محل هذا هو فصول كتاب «أساطير الأولين والديانات الباطنية» بإذن الله، لكن سأذكر هنا بحثا فرعيا قادني بحث المسألة إليه، ﻷنه طريف، بالمعنى الحرفي القديم لكلمة طريف، أي جديد.
يقول مؤلفو سفر حزقيال أنه رأى رؤيا.. ويسردون هذه الرؤيا بتفاصيل مبهمة أحيانا وعجيبة أحيانا أخرى.. وملخصها هو أنه رأى الملائكة حملة العرش، وأن "الحضور الإلهي" الذي كان قابعا على الهيكل قد ارتفع عنه لما وقع العقاب الإلهي على بني إسرائيل بأن تم سبيهم إلى بابل.
والنص يركز على الشكل الغريب لحملة العرش، وينسب لهم أوصافا اتفق كثير من الباحثين أنها أوصاف اقتبسها المؤلفون من التماثيل التي كانت منتشرة في الحضارات الوثية المجاورة لليهود.
فيقول النص مثلا أن الحملة كانوا أربعة.. واسمهم أو نوعهم هو "كروبيم"، الجمع العبري لكلمة "كَروب".. ولهم نقاشات وجدالات كبيرة في المسألة، وفي رتبة هؤلاء بين طبقات الملائكة، إلخ.
المهم في الموضوع هو أن النص يصف كل كروب بأن له أربعة وجوه!!
كل وجه في اتجاه. واحد على شكل ثور، والآخر بشري، والثالث كالنسر، والرابع كالأسد.
بعض الشراح يأخذون النص بقراءة حرفية.. والآخرون ينظرون إليه على أنه رمز لشيء ما وليس توصيفا فعليا.
مؤخرا بدأ يسود الرأي القائل أنها رموز للأبراج الفلكية النجمية، وأنها متأثرة بهوس البابليين بالفلك وعبادة الأجرام.. وهو الرأي الأقرب للصواب.
لكن محاولات إسقاط الرموز على الأبراج (كبرج الثور مثلا، وبرج الأسد) لم تصل لتوافق علمي واضح بخصوص الرمزين الباقيين.. لكن بتوفيق من الله أستطيع أن أقول أن المسألة تم حلها.
في بداية النص التوراتي للرؤيا الحزقيالية تركيز على أنها جاءته وهو واقف على نهر، ثم رأى الكائنات الكروبية تأتي ناحيته من جهة الشَمال.. وقد كان هذا مفتاح المسألة!
فالقدماء وضعوا تصوراتٍ تصويرية للكوكبات النجمية، كما هو معروف.. ومحبو الفلك وهواة الرصد يعرفونها..
فهناك، على سبيل المثال، كوكبة أندروميدا، والتي يسميها العرب "المرأة المسلسَلة".. وكوكبة بيجاسوس، الفرس الطائر المجنح.. وكوكبة الدب الأصغر، أي (أورسا ماينور)، والتي تشتهر بوجود النجم القطبي الشمالي فيها، مكان ذيل الدب.. وهكذا
لكن ما يهمنا هنا هو كوكبة النهر، والتي تقبع في السماء عند قدم كوكبة الصياد (أوريون، الجبار)، والذي هو على صورة رجل قوي يحمل هراوة يرفعها في وجه كوكبة هامة أخرى هي كوكبة الثور!!
هل بدأت الصورة تتضح لك الآن؟.. فها هو النهر، والبشري، والثور.. أما كوكبة الأسد والنسر (طائر العُقاب) فمعروفان.
وإن كنت تنظر للرجل والثور والأسد والنسر وأنت واقف على النهر تنظر، كما يقول النص، فستجدهم في جهة الشمال!
تفاصيل المسألة - مع مزيد من الرسوم التوضيحية - سأضعها في فصل "حزقيال" من الكتاب بعون الله.. لكن ما فات هو جوهر الموضوع.
أما الطريف والذي كنت وعدت به في بداية التدوينة، فهو أن المسألة كانت معروفة، بشكل ما، منذ الجاهلية!
فخلال بحثي وجدت بيت شعر للشاعر الجاهلي أمية بن أبي الصلت، يشير لفهمه لحقيقة النص، وأن المقصود به هو رموز فلكية.
ابن أبي الصلت كان مثقفا ومحبا للمعرفة في عصره، وخالط الرهبان وتعلم منهم.. وكان يريد أن يكون هو رسول الفترة الذي كان العالم ينتظره.. ولهذا يقال أن حسده للرسول - لما نزلت الرسالة على محمد صلى الله عليه وسلم - منعه من الدخول في الإسلام.
لو فتحت ديوان أمية بن أبي الصلت (طبعة بيروت، تحقيق د/ سجيع جميل الجبيلي ، 1998) صفحة 49 ، فستجد قصيدة عجيبة من 15 بيتا.. هذه القصيدة تركز على وصف القمر، وفيها ذكر للنجوم والشمس أيضا.
أول بيت من القصيدة يتحدث عن الحياة والموت:
حيا وميتا لا أبا لك إنما .. طول الحياة كزاد غادٍ ينفدأي أن عمر الإنسان كالطعام الذي يحمله المسافر في سفره، ينفد في النهاية
والشهر بين هلاله ومحاقه أجل لعلم الناس كيف يعددأي أن العمر يشبه حياة القمر، منذ يكون هلالا صغيرا إلى أن يختفي مرة أخرى في نهاية الشهر
وباقي القصيدة هو كالآتي:
تأمل معي هذين البيتين:
حُبِس السُرافيل الصوافي تحته .. لا واهن منهم ولا مستوغد
رَجُل وثور تحت رِجل يمينه .. والنسر للأخرى وليث مُرصَدمن السياق الذي قبله نفهم أن الكلام عن القمر، وأنه يختفي لليلتين ثم يولد هلالا من جديد، وأن النجوم تظهر حوله في صفحة السماء.. ومنها نجم الفرقد ومجموعة نجوم بنات نعش.
وأنه ليس ضعيفا (واهن\مستوغد)، بل قويا لدرجة أن الشاعر يصوره بأنه يضع السرافيل تحت قدميه، مع أنها من الصفوة.
فما هي هذه "السُرافيل"؟!
الكلمة ليس المقصود بها الملاك إسرافيل، لأن الكلمة في صيغة الجمع هنا لا المفرد.. (انظر: الصوافي ، منهم)
المقصود بها هو نوع الملائكة الذي يسميه اليهود ملائكة الـ سرافيم، أي المشتعلة الحارقة الملتهبة، ومفردها سراف.. وهي مثل الكروبيم.
ثم يفسر الشاعر ويفصل مقصوده من السُرافيل عندما يقول أنها أربعة.. رجل وثور ونسر وليث.
وبالطبع ليس مقصوده هو أن الملائكة خاضعة تحت قدميّ القمر!.. بل أنها نجوم، أو مجموعات نجوم، يقل ضوءها عن نور القمر.. كما أورد مثلا ذِكر نجم الفرقد ونجوم بنات نعش، والكواكب الدراري (أي المضيئة).
وهذا البيت الشعري الجاهلي زيادة في التأكيد على أن الكائنات الموصوفة في رؤيا حزقيال هي رموز لكوكبات نجمية معينة ومحددة ومعروفة لمؤلفي النص..
الصياد أوريون (رَجُل)، والثور، والنَسر، والأسد (ليث)