جولة في فيلا نوسترادام
(أحداث هذه القصة فيها شيء من الحقيقة. تذكر.. الحقيقة قد تكون أحيانا أبشع من الخيال!)
---
تحتي شيء ملمسه غريب, متصلب وغير مستو. فتحت عينيّ وأغلقتهما مرة بعد الأخرى لكن الظلام المحيط لم يتغير. سواد حالك يحيط بي من كل مكان, يخنقني. الهواء يزداد ثقلا مع كل نفس أسحبه ورأسي لا يكف عن الدوران وكأني في دوامة. أصوات ضحكات مكتومة تتسرب إليّ عبر جدران لا أراها, مخلوطة بما يشبه صوت الجاروف. شعرت بالاختناق وبالنهاية تقترب رويدا رويدا ثم فجأة..
تررن .. تررن
أيقظني صوت الجرس من كابوسي الغريب. العرق يغمرني وعضلات جسمي متخشبة كالذي يقوم من موت. فاتت برهة قبل أن أتنبه لمحيطي. استجمعت قواي ونهضت لألتقط السماعة. على الطرف الآخر اسمع نتف من حديث هامس لا أتبينه قبل أن يكلمني صوت مضطرب لم أتعرفه في البداية, لكن بعد بضعة كلمات أسعفتني ذاكرتي بالاسم.
"ضاري ؟!.. ماذا جرى لصوتك ؟ تبدو منزعجا على غير عادتك"
"لا شيء. المهم أن تسمعني. لدي لك خبر ممتاز. يجب أن تحضر حالا. فيلا نوسترادام بشارع زرقاء اليمامة"
استمرت المكالمة دقيقتين أخرتين ثم أغلقت الهاتف على وعد بالحضور بأسرع ما يمكنني.
ضاري هو صديقي منذ فترة ويساعدني في محتويات مدونتي الإلكترونية أو (البلوج) blog كما يقال بالإنجليزية. فأنا لدي موقع على الإنترنت يختص بنظريات المؤامرة وخفايا السياسة يسمى (نعاج) وهي الحروف الأولى من عبارة (نظام عالمي أمريكي جديد). أعجبني الاختصار لكونه يمثل حالة الشعوب في السير كالنعاج وراء ما يخطط لها في الظلام. كنت قد بدأت أحظى ببعض الشهرة على الإنترنت وفي محيط المهتمين بمثل هذه المواضيع حتى أن جريدة محلية أجرت معي مؤخرا حوارا استغرق ساعتين. للأسف لم ينشر منه إلا فقرات ومعها أخطأوا في كتابة العنوان الإلكتروني للموقع, لكن هذا على الأقل خير من لا شيء.
والآن ضاري يخبرني أنه وقع على قصة جديدة ومثيرة ستتحرك لها شهيتي الصحفية لكن الأمر يتطلب حضوري الفوري لهذا العنوان. ارتديت ملابسي في عجلة وتمنيت ألا تتعطل السيارة الصغيرة كالعادة, فلا مواصلات متيسرة في مثل هذه الساعة من الليل.
وصلت بسرعة إذ كان الطريق أمامي خاليا. حي الأغنياء, لم أزر المكان كثيرا لكن استطعت التعرف على الفيلا المطلوبة برقعة الاسم على واجهتها والأضواء المنبعثة منها. كلما اقتربت زاد الصخب وتبينت أصوات ضحكات. تذكرت الحلم لكن سرعان ما نفضته من ذهني ووقفت أدق زر الجرس الصغير. خشيت ألا يسمعوني. فكرت في العودة لكن القصة الصحفية التي وُعدت بها وفضولي تمكنا مني فانتظرت.
انفتحت البوابة الحديدية الخضراء وظهر من يشبه رؤساء الخدم في روايات أجاثا كريستي. لم يتفوه بكلمة بل كان كل ما فعله هو أن أشار لي بالدخول. خيل إليّ أني لمحت نظرة غريبة في عينيه وكأنه يريد أن يقول شيئا ولا يقدر. قادني عبر حديقة بدت معتنى بها وسرت خلفه في سرعة محاولا اللحاق بخطواته الواسعة. دهمني شعور مفاجئ بالغربة. ماذا أفعل هنا ؟ أين ضاري ؟ ترى ما الذي أوقعت نفسي فيه ؟ أرجو ألا تكون خدعة سخيفة أو مقلب.
ولجنا باب الفيلا الواسع تاركين الحديقة خلفنا. ذكرني تصميم المكان بالمسلسلات التاريخية القديمة أيام حقبة الباشاوات.على الجانب سلم طويل يقود حتما للدور الثاني. اللوحات على الجدران في إطارات مذهبة, بعضها مناظر طبيعية والآخر أجساد عارية في أوضاع غير محتشمة. تساءلت من يعرض لوحات كهذه في مدخل بيته ؟ إما جريء لا يخشى رأي الزوار أو عديم للذوق.
اختفى الخادم قليلا ثم عاد بكأس عصير مثلج. رشفت رشفتين ثم وضعت الكأس على منضدة خشبية مجاورة تبدو أثرية.
سمعت خطوات أعلى السلم فرفعت رأسي. واجهني هابطا رجل متقدم السن أشيب له ملامح أجنبية واضحة ويرتدي رداء منزليا مزينا بصور عديدة لفراشات ملونة. في يده اليمنى تلمع ساعة يد تبدو باهظة الثمن. اقترب مني وعلى وجهه ابتسامة.
"How do you do?"
كدت أجيبه بالإنجليزية قبل أن يعود ويتكلم بالعربية.
"آسف, إنها العادة. أنا أتحدث العربية بلهجات عدة منها المصرية كما ترى, وإن كنت أحن من وقت لآخر للغتي الأم"
كانت لهجته مصرية بالفعل لكن فيها لكنة يمكن تبينها بسهولة. وضع ذراعه على كتفي في عفوية وكأننا أصدقاء طفولة وسار بي إلى باب خلفي خرجنا منه فوجدت أمامي ما صدمني. لم استوعب كامل المشهد إلا بعد لحظات.
كان حمام السباحة يتلألأ بأضواء مصابيح تحيط بجوانبه الأربعة. على سطح الماء تسبح بتلات لأزهار حمراء وعوامة هوائية على شكل سرير, لكن لم يكن هذا الشيء الوحيد الذي يسبح.
نثرت فتاتان الماء من حولهما في لعب صبياني بريء وإن لم يكن بالمشهد أية براءة. كيوم ولدتهما أمهاتهما كانتا, وإن لم يولدا – أنا واثق – بأعضاء في مثل هذا النضج والأنوثة. هيئ لي أني رأيت شفتاهما تتلامسان للحظة لكن عدت وكذبت عيني. على كراسٍ مريحة جلس بجوار حمام السباحة رجال تتابع عيونهم النشاط النسائي في الماء. عددت ستة رجال, أغلبهم بكروش ضخمة وجسد غطاه الشعر. شيء ما كان مألوفا بخصوصهم وإن لم أضع إصبعي على كنه . اندفعت من أحد الأبواب مجموعة جديدة من الفتيات اللاتي – على عكس السابحتين – لم تكن ملامحهما غربية. تجمع بعضهن حول الرجل الجالس في أقصى اليمين وراحا يداعبانه في مجون واضح. شعرت بالدم يندفع لوجهي الذي بالتأكيد صار أحمر كحبة طماطم. التفت لمضيفي فوجدته لا يزال مبتسما. كان في ابتسامته ما يشبه الفخر, كالذي يريني قصة كتبها أو يزهو بأفعال ابن له. فكرت أن ألطمه لأزيل تلك الابتسامة اللزجة عن وجهه لكن غيرت رأيّ وتمالكت نفسي. ما معنى هذا ؟, فكرت في السؤال ثم نطقه لساني.
"أنت يا صديقي تحظى بشرف الانضمام لإحدى حفلاتي التي لا أقيمها إلا للنخبة.. النخبة فقط. من تراهم هنا هم من أهم رجال الاقتصاد والسياسة في البلد. أعضاء نادي لا يسمع عنه إلا القليل ومع ذلك فتأثيره تجده في كل شيء حولك, الأخبار والتعليم والإعلام والمال وحتى في كوب الماء الذي تشربه ومكالمة الجوال التي تقوم بها. إنك ببساطة داخل الرأس الحقيقية للدولة"
عرفت لم بدا لي الرجال مألوفين, فوجوههم تطالعني كل يوم في الجرائد وإن اختلف شكلهم بالسترات الرسمية عن حالهم الآن, عراة إلا من سراويل السباحة.
"اتبعني!". لا أعرف ما الذي دعاني للسير خلفه وعدم مغادرة المكان على الفور. لكن الفضول قتل القط كما يقولون. أخرجت جوالي والتقطت خفية صورا سريعة للجالسين. أكاد أجزم إن الرجل رآني بطرف عينه وإن لم يبد عليه أي رد فعل. أخفيت الجهاز في جيب سروالي وأنا أفكر في تأثير نشر مثل هذه الصور على الموقع. إنها خبطة العمر ولا شك .
وقف أمام باب موارب لحجرة. أشار لي بالاقتراب في هدوء.
مددت رأسي عبر الفتحة فكدت أتقيأ عشائي. كان بالغرفة رجلان عاريان يشتركان في فعل قبيح غير واعيين بمن يتلصص عليهما. زاد من وقع الصدمة أن تعرفت الرجل الراقد على بطنه.
"أليس هذا وزير الـ..؟!" قاطعني بإيماءة صغيرة ونفس الابتسامة.
عدنا لمنطقة حمام السباحة التي كان النشاط فيها قد تطور لمراحل جديدة. رأيت أفعالا يشترك فيها أكثر من فردين بل وثلاثة.
دخلنا حجرة أخرى أحد حوائطها زجاجي. أمام الزجاج جلس رجل وامرأة يتابعان ما يحدث خلف الزجاج. كانت هناك امرأة ترتدي ملابس جلدية سوداء لا تسترها, وتمسك في يدها سوطا قصيرا تضرب به الضربة تلو الأخرى رجلا قصيرا مربوطا من عنقه بسلسلة إلى الحائط, ويبدو عليه لا الألم بل الاستمتاع. تعرفت فورا على الأداء السادي الماسوشي الذي قرأت عنه من قبل ولم أره.
مال مضيفي المريب عليّ وقال "نحن نتابعك منذ مدة. ربما لا تعرف هذا لكن كتاباتك جذبت انتباه أناس في مواقع عالية, أعلى مما يتصوره عقلك الصغير. لقد لمست وترا كنا نحب ألا يسمع صوته أحد. إنك كنت تكتب عن أشياء لا تعرفها, والآن أعطيك جرعة من الحقيقة"
"ألا تخشى أن أذهب فور خروجي من هنا وأقوم بفضح كل ما رأيت ؟"
"لن يصدقك أحد. هذا غير أن رد الفعل سيكون عظيما. ربما يودي بأساسات الدولة كلها. بعض الأشياء لا يجب أن تقال"
لم أقتنع بكلمة قالها وعزمت أمري على النشر مهما يكن. كانت العناوين المثيرة تتشكل في ذهني وتتراقص الكلمات أمام عيني.
عاد يقول "لك أن تعرف أن من وراء كل هذا محركو خيوط, صانعو قرارات يملكون أوراق الجميع. الكل مكشوف أمامهم ومعروفة نقاط ضعفه ولا يكشفهم أحد. إن وراء الستار أمور لا تخطر لك على بال, ولن يكشف هؤلاء أقنعتهم إلا في يوم يكونون متأكدين فيه ألا عقبة أمام حلمهم الكبير"
"أي حلم ؟" , سكت ولم يجب.
"أنت تخدع نفسك يا مستر نوسترادام إن فكرت للحظة أن هذه المغريات التي تريني إياها ستغير من موقفي قيد شعرة. فأنا لا زلت أفكر بعقلي لا بجهازي التناسلي. إن دعوتي الليلة خطأ كبير من جانبك لن تدرك عواقبه إلا متأخرا للغاية"
"حسنا.. وإن كان رأيك هذا لن يكون ذا بال فور أن ترى المحطة القادمة والأخيرة من جولتنا"
وصلنا لجانب خلفي من الحديقة وأنا عازم على الرحيل, لكن بدأت تنتابني حالة غريبة من الخمول والدوار. تعثرت قليلا وكدت أقع أرضا. ترى ماذا وضعوا لي في شراب العصير ؟ . رأيت رجلان ضخمان واقفان ينظران لشيء ما على الأرض. اقتربت بخطى متثاقلة.
كانت التربة محفورة وأسفل الحفرة يرقد ما يشبه التابوت الضخم. داخله كان جسد.. جسد ضاري!
"ماذا فعلتم به أيها السفلة ؟".
شعرت بدفعة من خلفي. سقطت على ظهري فوق الجسد المتصلب. بسرعة رفع الرجلان غطاء أسود وأحكماه فوقي.
ساد الظلام.
ازداد الدوار.
أصوات ضحكات.
التراب أشعر به ينهال فوق غطاء التابوت. ارتفع نبض قلبي من الرعب.فتحت عينيّ وأغلقتهما لكن الظلام كان يحيط بي من كل جانب.
وتذكرت الحلم.
لا يوجد تعليقات
أضف تعليق