الصغار يتصفون بالانطباعية، أي أنهم Impressionable بالفطرة.. الأحداث التي تمر بهم تشكّل شخصياتهم ويبقى أثرها كما يبقى ما ترسمه على الأسمنت الطري بعد جفافه.
في آخر أيامي بالمرحلة الابتدائية في المدرسة تعلمت درسا لا ينسى.. تعلمت أن "الكبار" ليسوا معصومين عن الخطأ كما يحبون أن يوحوا للصغار!
كنا نهيئ أنفسنا لترك مدرستنا التي تعودنا على ملازمتها خمس سنوات (كانت الدراسة الابتدائية خمسة صفوف دراسية فقط) ونستعد لخوض غمار هذا الكون الغامض المسمى "الإعدادية"!.. كنا نعرف أن الأصدقاء سيتفرقون ليذهب كل منهم في طريق.. ثم جاءت "أبلة هيام" في الأيام الأخيرة لتنبهنا لمسألة أخرى.. جو الدراسة "المختلطة" (ذكور وإناث) الذي عهدناه سينتهي.. الأولاد لهم مدارسهم الإعدادية والثانوية المنفصلة عن مدارس "البنات"..
ولهذا اقترحت الأستاذة أن يجلس كل ولد بجانب إحدى البنات، لأنه شيء - كما قالت - لن يتكرر لمدة طويلة قادمة!
وفعلا، بدأت الأستاذة في اختيار من من الفتيات ستجلس بجوار من من الصبيان، وجعلت "رفيقتي" هي أقل البنات قدرة على التحصيل الدراسي في الفصل!
كانت تجلس في آخر "تختة"، وكنت أجلس في أول صف.
مفاهيم "الشاطر" و"البليد" كانت هي "مؤشر الوضع الاجتماعي" الأهم في تلك المرحلة من حياتنا، وربما كان قصد الأستاذة هو كسر هذا الحاجز وتعليمنا أن "الطبقية" الفكرية والفروق في الذكاء ليست هي معايير الحكم الوحيدة في الحياة.
لكن ربما أيضا كان السبب هو رغبة الأستاذة في مضايقتي بإجباري على الجلوس ملاصقا لبنت كان الجميع يعرف أنها "محدودة الذكاء" نتيجة لمرض ما، في حين أن رغبتي الحقيقية وقتها كانت - بالطبع - هي الجلوس جوار أجمل و"أشطر" - وأطول - فتاة في الفصل.. منافستي في كل امتحان وموضع إعجاب قلبي الصغير وقتها!!
وقد تتساءل: وما الذي قد يدفع مدرسة في مدرسة ابتدائية لمضايقة أحد تلاميذها الصغار، خصوصا وأنه "أشطر طلاب المدرسة" وصديق ابنها (كريم) لسنوات؟!!
الإجابة طبعا هي الموقف الذي حدث قبل هذا بأيام، حين رأيت "الوجه الحقيقي" لـ "أبلة هيام" التي كانت تعاملني لسنوات كابنها تماما وتتابع مسيرتي الدراسية وتقدمني في الإذاعة المدرسية الصباحية لأتلو القرآن، وتعطيني هدايا في الطابور الصباحي لسعادتها بدرجاتي المرتفعة!!
فهذه الأستاذة نفسها هي من رأيت الشرر يكاد يتطاير من عينيها فيما بعد وهي تضربني بالعصا أنا وصديقي أحمد عثمان لأنها ظنت أننا "تغامزنا" سخرية من ابنها عندما فشل في الإجابة على سؤال أثناء إحدى الحصص التي كانت تقوم بالتدريس لنا فيها!
كانت أول مرة فعلا أرى - بشكل عملي - كيف أن الأوهام قد تسيطر على شخص ما لدرجة أن يرى ما لم يحدث أصلا!! فلا أنا ولا صديقي وقتها تغامزنا ولا انتبهنا إطلاقا لفشل ابن الأستاذة في إجابة سؤالها..
لكن يبدو أن اقتراب موعد الامتحان النهائي قد جعلها أكثر حساسية فيما يخص (كريم) ومستواه الدراسي بحيث تصورت أن الجميع يضحك عليه لمجرد أنه لم يجب على سؤال ما!
قد يبدو لك الموقف بسيطا لكنه بالنسبة لي وقتها كان صادما.. لأن الإحساس بالظلم مر جدا، خصوصا عندما يتم عقابك على شيء لم تفعله ولا تملك أي فرصة في توضيح الحقيقة لأن القاضي في هذه الحالة هو نفسه الجلاد. وصاحب الاتهام هو من يمسك بالعصا وبالتأكيد لن يستمع للمنطق ما دام مقتنعا تمام الاقتناع بأنه على صواب.
هوت العصا على أيدينا عدة مرات ثم أمرتنا الأستاذة أن نعود لآخر الصف ونبقى هناك عقابا لنا.
وكما قلت من قبل، في مجتمع فصلنا الصغير كانت المراتب الاجتماعية تتحدد بمكان جلوسك!
بعد يومين أو ثلاثة عدنا لمقعدنا المعتاد وتم نسيان الأمر.. أو هكذا حاول كل الأطراف أن يتظاهروا.
لاحظ أن مكاني لسنوات كان في التختة الأولى، محشورا بين أحمد على اليمين وكريم على اليسار! وكان هذا الوضع من اختيار وتصميم الأستاذة نفسها لأنها أرادت لابنها صحبة جيدة ولم تجد أفضل مني ومن أحمد.
كان أحمد أقرب لي بالطبع من (كريم) لأن الأخير كان "خشبيا" بعض الشيء، إن جاز الوصف. وكان صامتا ويحب رسم الديناصورات التي كان يبهرنا بمعرفته الموسوعية لأنواعها وأشكالها.. ويبدو أن أمه كانت تتحكم فيه أكثر من اللازم، وكانت رقابتها عليه دائمة، في البيت وفي المدرسة.. وكانت قد اختارت أن ترفض ترقيتها لمديرة المدرسة لتظل مدرسة في الفصل الذي يدرس فيه ابنها، وفيما بعد علمت أنها صارت المديرة وتركت التدريس الفعلي لما انتقل كريم من المرحلة الابتدائية للإعدادية.
أحمد كان له وضع اجتماعي مميز أيضا في المدرسة.. فأمه كانت ضمن طاقم العاملات. وبالنسبة لعقولنا الطاهرة من الاعتبارات الطبقية وقتها كنا ننظر لها كسلطة حقيقية ونرى صداقتنا لابنها مصدر قوة يمتعنا بحرية أكبر في التحرك خلال مباني المدرسة و"استكشاف" حجراتها، ما دمنا أصدقاء "ابن الدادة".
إذن كان الوضع كالآتي.. كنت صديقا لاثنين كليهما يستند لـ "ركن قوي" في المدرسة، وكنت معروفا لباقي الأساتذة لاشتراكي في نشاطات أخرى (كالكشافة والإذاعة المدرسية) ، وكنت مقربا من بعضهم بصورة شخصية.. ولهذا كانت سنوات الدراسة الابتدائية في مدرستي سعيدة لحد كبير.. وإلى الآن أذكر "مغامراتي" مع أحمد لاستكشاف "الغرف المغلقة" عندما يكون الجميع مشغولين في فصولهم وباقي زملائنا يجلسون في الفصل صامتين لأن أستاذ الحصة تغيّب والأستاذ البديل يمنعهم من الكلام والحركة!
كنا نتمتع بـ"كارت بلانش" لثقة الجميع بنا وغضهم الطرف عن خرقنا البريء للقواعد.
في تلك السنة الأخيرة كنت قد بدأت في الميل للعزلة بشكل طبيعي. فكنت أصل المدرسة مبكرا قبل طابور الصباح وأجلس في الفصل اقرأ جريدة "أخبار الأدب"!! (عندما كنت لا زلت ساذجا يظن أن ما ينشره أمثال القعيد والغيطاني هو الأدب الحقيقي!)
وفي تلك السنة مات أبو أحمد أمام عينيه فكان لهذا بالطبع أثره عليه. وكانت بدايات إدراكي لحتمية الموت واهتمامي بالأحاديث النبوية التي تصف خروج الروح وحياة القبر البرزخية.
تلك السنة شهدت أيضا تعرضي لحادثة سيارة وقعت أثناء سيري مع أحمد وأمه بعد انتهاء اليوم الدراسي.
كنت أعبر الطريق وألتفت للخلف ملوحا لصديقي الذي كان سيقف مع أمه لينتظر الأوتوبيس في حين سأكمل أنا طريقي سيرا على الأقدام كالعادة، عندما شعرت بنفسي أطير في الهواء!
سيارة تاكسي مسرعة صدمتني، لكن الضربة تم امتصاصها لأن شنطة المدرسة الثقيلة والمليئة بالكتب وقفت حائلا بيني وبين السيارة.
الغريب أني كنت معروفا بحملي للكثير من الكتب الإضافية دائما تحسبا لأي موقف محرج قد ينتج عن نسيان كتاب أو كراسة، وكان الجميع ينصحني بتقليل هذه الحمولة اليومية خوفا من تقوس ظهري تحت ثقلها.
تجمع الناس حولي وأجلسوني على مدخل أحد المحلات وأعطوني كوب ماء لأشربه في حين أني كنت أتعامل مع الموقف ببرود تام ولا مبالاة وكأن شيئا لم يحدث!
فالكتب سليمة وأنا سليم، وأم أحمد وابنها يقفان جانبي، فلم الخوف؟!
عدت يومها للمنزل ولم أخبر أمي عن الأمر.. تماما كما لم أخبرها عن حادثة اتهام الأستاذة لي وضربها لي. فلا داع لإثارة مشاكل انتهت على خير.
أمي كانت معروفة بحضورها لمدرستي - من مدرستها التي كانت تقوم بالتدريس فيها - لتقابل المدير والمدرسين للاطمئنان على أحوالي وتوفير "دعم معنوي" دائم لي.. ولا أعرف ماذا كانت ستفعل لو علمت بإهانة الأستاذة لي تلك الإهانة غير المبررة!
الطريف أنه بعد فترة قصيرة كنت قد انتهيت مبكرا من اختبار مادة الرياضيات في الشهادة الابتدائية وأجلس أنتظر جرس انتهاء وقت اللجنة، عندما وجدت أم كريم تدخل لجنتي وهي تحمل ورقة إجابة ابنها كي أقوم بحل مسألة الرسم الهندسي له!!
وطبعا فعلت.
لا يوجد تعليقات
أضف تعليق