محمد الكاشف

0
الجندي مسلم .. محمد الكاشف
تمهيد

 
الجمعة بعد صلاة العشاء بقليل

" .. , ولقد صرح مصدر مسئول بوزارة الداخلية , أن الانفجار المحدود الذي وقع منذ ساعات قليلة بمنطقة العجمي في مدينة الإسكندرية , لم يسفر عن وقوع أية إصابات أو ضحايا .. هذا وقد علم مراسلنا هناك " أيمن البدري " أن العديد من أهالي المنطقة سمعوا أصوات تبادل لإطلاق النار .. ورفض مسئول الداخلية التعليق علي هذه المعلومة . ومعنا الآن مباشرة من موقع الحادث مراسلنا ليوافينا بآخر التطورات .. أيمن , ما الجديد عندك ؟! " ..

" مساء الخير يا سحر , بالفعل أنا الآن أتحدث من موقع الانفجار .. شاطئ شهر العسل بالعجمي , وعلي الرغم من بساطة الحادث وأنه وقع منذ مدة قصيرة نوعا , إلا أن قوات الأمن المركزي سرعان ما طوقت المكان , ومنعت مراسلي وسائل الإعلام من الدخول إليه أو حتى الاقتراب منه .. ومع هذا الوجود الأمني المكثف نجد أنه من الغريب عدم إبداء أي من الأهالي تذمرا أو شكوى , لكن الأغرب بالفعل هو رد فعلهم تجاه أي سؤال يوجهه إليهم مراسلو الصحف و القنوات التليفزيونية , فلا تكون الإجابة إلا بالابتسام وبعض كلمات لا تسمن ولا تغني من جوع .. والحقيقة أن الأمر يبدو كما لو أن الجميع هنا اتفقوا علي أن يخفوا سرا ما بينهم .. أو هذا هو ما أشعر به علي أية حال !! "

"وأخيرا وافق البعض علي الحديث معنا .. معي الآن هنا العقيد السابق السيد جاد عبد الوهاب وهو من أهالي المنطقة .. سيد جاد , هل تتخذ العجمي كمشتى حاليا أم تسكن هنا بصفة دائمة ؟ .. وما تفسيرك الشخصي للانفجار الذي حدث ؟ " ..

" بسم الله الرحمن الرحيم .. أنا أعيش منذ تقاعدي في فيلا قريبة من هنا , أسكن بالدور العلوي وأؤجر الأرضي للمصيفين والمشتين في الغالب .. وعند آذان المغرب , حوالي الساعة السادسة تقريبا , سمعت - عندما كنت أجلس مع بعض الضيوف من جيراني في المنطقة - أصوات طلقات نارية , في الغالب من مسدس " نسر الصحراء " Desert Eagle وهذا بحكم خبرتي العسكرية بالطبع , ثم صمت قصير تبعه موجة أخري من الطلقات المتلاحقة ثم حدث الانفجار .. بالطبع هرع الجميع نحو المكان و .. " , يقاطعه المراسل بسرعة ويقول " ولكن ما ورد إلينا حتى الآن أنه لا توجد أية جثث أو إصابات .. فما تفسير الطلقات .. وما الشيء الذي انفجر علي وجه التحديد ؟! .. حيث رفض المسئولون إعطاء أية تصريحات بخصوصه .. "

يبتسم العقيد عبد الوهاب ابتسامة يخفي بها اضطراب واضح ويقول " نعم .. إحم , بالطبع .. بالطبع لم تحدث أية إصابات أو أي شيء من هذا القبيل .. والصراحة ليست عندي معلومات كافية عما سبب الانفجار أو .. "

يقاطعه المراسل مرة أخري ويقول في حدة " ولكنك رأيت ما حدث و المفروض أن .. "

يحمر وجه العقيد ويرد في حدة مماثلة " قلت لك لا علم عندي عن الأمر .. ولن اسمح لك بأن تعلمني المفروض من غير المفروض .. ولا اعتقد أني سأستمر في هذا الحوار .. اسمح لي " ويزيح المراسل من أمامه ويمضي في غضب , ويبدو أنه أزاح المصور أيضا لأن الكاميرا اهتزت في عنف لثوان قبل أن تثبت مرة أخري علي وجه " أيمن البدري" الذي أحمر احمرارا مضاعفا من جرّاء الغضب مما حدث والخجل لأنه تم أمام الآلاف من المشاهدين .. ومضت لحظة صمت قصيرة لا ندري ماذا كان من الممكن أن يقول فيها , حيث تداركت مذيعة الاستوديو الداخلي الأمر وتكلمت في سرعة قائلة " شكرا للزميل أيمن على حواره .. والآن ننتقل أعزائي المشاهدين لمتابعة حالة الطقس غدا بإذن الله , حيث أنه من المحتمل أن تسقط الأمطار على .... "

=====

لكن هذا التقرير الإخباري لم يكن البداية , بل هو للنهاية أقرب. ولأني أعرف أنك تريد الأحداث من أولها أخذت على عاتقي مهمة كتابة كل ما جمعته من أفواه الأبطال الحقيقيين لهذه المغامرة بعد أن انتهت فصولها بفترة قصيرة. والآن أنشرها للعالم بإذن من بطلها "الكاشف" شخصيا, مع تغيير بعض الأحداث والأسماء للحفاظ على السرية والخصوصية.
=====



الخميس قبل أذان المغرب بقليل
 
لم تكن الحركة عادية في منزلها هذا اليوم, والسبب واضح بالطبع. فهذا أول خميس من شهر رمضان وكعادتها كل عام تجمع "العمة كريمة" شمل عائلتها -القريب منهم والبعيد- على مائدة إفطار عامرة ويبقى معظم أفراد هذا التجمع العائلي المترابط يتحدثون ويتبادلون أخبارهم -وبعض أخبار الآخرين أيضا !- حتى السحور. لو كنت مطلعا على تاريخ عائلة الكاشف لعلمت أن هذه التجمعات سمة استمرت عبر القرون لم تنقطع إلا في سنوات معدودة ولأسباب قاهرة أو أزمات. يقال أن "عزيز الكاشف" الجد الأكبر هو من بدأ الأمر ليجمع أهله كل عام مرة على الأقل بعد هجرتهم الكبيرة من بلادهم الأصلية للإسكندرية. لكننا نحكي الآن عن الواقع لا التاريخ, لذا من الأفضل أن نعود ونتابع ما يحدث في البيت, ونلقي نظرة على المكان والأشخاص قبل أن يتشتت انتباهنا بسبب الروائح المثيرة التي تتصاعد من المطبخ والتي تعمل عليها (فرقة عسكرية صغيرة) مكونة من نساء وبنات عائلة الكاشف. لا تسمح العمة لأحد الرجال بالاقتراب من موقع التحضير والإعداد -كما كانت تطلق على مطبخها- إلا أن الصغار كانوا يتنقلون بحرية في جميع أرجاء المكان, ماعدا حجرة واحدة حرصت السيدة كريمة على إحكام إغلاق بابها قبل مجيء الجميع, حتى لا يتكرر موقف العام الماضي وتفسد فرحة تجمعهم حولها. ويبدو أن ذاكرة الأطفال ضعيفة بالفعل, أو أنهم ظنوا الأحوال قد تغيرت عن السنة السابقة. فحين حاول بعضهم معالجة المقبض ولم يستجب له, نظر عبر ثقب الباب عله يروي فضوله عما تحويه الغرفة لكن الظلام الدامس داخلها منعه من ذلك فلم يبق له سوى التخمين. لكن طبيعة الأطفال غلبتهم في النهاية فانصرفوا عن الموضوع جملة وتفصيلا وجذبت انتباههم أشياء أخرى كمتابعة القادمين الجدد من الضيوف والأقارب ومراقبة أمهاتهم المنهمكات بين الأواني والأوعية. كم هم في نعمة هؤلاء الأطفال.. ينسون في سهولة في حين يتعذب الكبار بما لا يقدرون على نسيانه وينشغل فكرهم بما ينغص عليهم أحلى اللحظات. ولن أذهب بعيدا لأعطيك مثالا على ذلك, فها هي العائلة أمامك لتدقق فيها كما تريد وتستنتج ما يفكر فيه كل منهم. ولنبدأ بأول الواصلين للمكان:أسرة أبي المعاطي.

كما تعلم, فالعائلات هي كالمجتمعات المصغرة.تجد فيها الطيب والشرير, الغني والفقير,..وهكذا. تجد الاختلافات والخلافات, التكتلات والعلاقات المتشابكة والمصالح. ولا يوجد سبب يجعل عائلة الكاشف مختلفة عن باقي الناس في هذا الأمر. فعلى سبيل المثال, أبو المعاطي وأسرته الصغيرة من الفرع (المتمدن) في العائلة. انفصلوا منذ زمن وسكنوا العاصمة بعيدا عن السواحل السكندرية,الموطن الطبيعي للكواشف. وبطبيعة الحال صاحب هذه الهجرة المكانية هجرة ذوقية واجتماعية. فالبيئة الجديدة فرضت قيما جديدة وأسلوبا في الحياة مغايرا لما يعتبر أسسا وأصولا لباقي فروع العائلة. في البداية كان الأمر ظريفا وتم تقبله بهدوء وحكمة, ورأى كبير العائلة وقتها أنه تطور طبيعي لا بد منه, وربما يعود بالنفع يوما على باقي الأفراد ويتوسعون. لكن الواقع أن البعيد عن العين بعيد عن القلب.. فبعد كل تجمع عائلي كانت التباينات بين الفرعين تزداد وضوحا. وزاد الطين بلة أن ذلك الفرع استقطب بعض الشباب الطموح من العائلة وأغراهم -عن غير قصد أو تخطيط في الغالب- بالانتقال والبحث عن فرص جديدة وحياة مختلفة بعيدا عن رقابة كبار الكواشف المقيمين جوار البحر. ثم بدأت المشاكل في الظهور. لاحظها الكبار تنمو وتتجمع كماء خلف سد لا يلبث أن يفيض. وخافوا أن تغرق السفينة حتى أن بعضهم فكر في قطع دابر المشاكل بطرد مصدر الانقسام,تلك الدويلة الساعية للاستقلال, أو دعوتها للعودة للجذور والأرض مع ترضيتها وتعويضها عن أية خسائر قد تنجم عن الانتقال. لكن مرة أخرى حكمة رب العائلة عرقلت تنفيذ الاقتراح لما توقعه من رفض للفكرة وما سيتبع ذلك -ولا شك- من انقسام للكلمة وربما تفتت قوة الكواشف للأبد. وتُرك الأمر كما هو عليه حتى إشعار آخر. وبتوالي الحوادث والسنين وموت الجيل الحكيم, حدث ما كان متوقعا وتكون ببطء حزبان . لم يكن العداء ظاهرا ولم يتحدث عنه أحد لكن الشعور به كان موجودا في القلوب ويراه الصغار في فلتات اللسان وبتجمع العديد من المواقف الصغيرة تتضح الصورة. القاهريون لهم القوة الاقتصادية وبعض الموالين من الشباب, في حين أن السكندريين لهم التاريخ والقيم. كل يفتقد ما عند الآخر في حين أن اجتماعهم وتوحدهم فيه القوة للجميع, أو هكذا كان يظن الفريق الثالث المحايد المتجنب للفتنة, والذي وصفه بعض القاهريين بالسلبية واللعب على الحبلين, غير فاهمين لدوافعه ومبرراته. وأبرز هؤلاء المحايدين كان محمد الكاشف الشاب بطل قصتنا هذه. أما العمة كريمة فهي محافظة بطبيعتها ومركزها الاجتماعي أهلها لتزعم جماعة السكندريين, وإن كانت مؤخرا بدأت تميل لرأي محمد الكاشف وجماعته لما رأت فيه من فكر يعادل بين الأمور ويوزنها, ولا دليل على ذلك خير من أنه محبوب من الجميع, والكل يطمع في انضمامه إليه.. درة الكواشف وزينة شبابهم, "أشبه الناس بالكاشف الكبير نفسه طيب السيرة", كما كان يقول الأستاذ حافظ رحمه الله والذي هو أشبه بمؤرخ لعائلة الكاشف والمتتبع لأخبار كبيرهم وصغيرهم, وقد رأى محمدا صبيا ولم يطل به العمر ليمتع عينيه به بعد أن كبر محمد الكاشف وصار شابا.

لكن حالة الترقب بين الفريقين كانت كالهدوء يسبق العاصفة. ولقد تنبهت العمة للأمر منذ بدأ العام الماضي في تجمع مشابه لتجمعهم هذا. فما يبدو هو أن أبا المعاطي كممثل لكواشف القاهرة قد غير من خططه وأظهر الندم وأعلن بالقول والفعل أنه يريد لهذا الـ(خلاف البسيط) أن ينفض وتعود المياه لمجاريها خاصة بعد وفاة رب العائلة وكبيرها. وبحنكتها أدركت أن وراء الأكمة ما وراءها. فالتقارب المبالغ فيه الآن ليس من مصلحة السكندريين ولا شبابهم الذي قد ينبهر بحياة أهل القاهرة وأموالهم ويخفى عليه السبب الحقيقي للخلاف واختلاف القيم, لاسيما أن هذا الانبهار قد زاد مؤخرا بالفعل وعلاماته واضحة لكل ذي عين. وأبو المعاطي يعلم هذا ويستغله بل أنه نقل الصراع لمرحلة جديدة حين فكر في أن خير ما يجمع الطرفين هو .. الزواج. ومن عدة مؤشرات لاحظتها السيدة كريمة استنتجت أن هدفه هو جمع ابنته رانيا -التي تمثل كل ما تعارضه كريمة في القاهريين تقريبا- بـ . . محمد الكاشف!

=====

حل الصمت على الجالسين عندما ارتفع صوت الشيخ العجمي من المسجل وهو يتلو سورة يوسف, وامتزج أثر الصيام بتلاوة القرآن حتى شعر الجميع بهذه النكهة المميزة التي تجعل شهر رمضان مختلفا دائما عن باقي شهور العام. كان الجمع لم يكتمل بعد ومن المنتظر قدوم الآخرين بين لحظة وأخرى, إلا أن البعض ظهر تبرمه من الأمسية كلها حتى قبل أن تبدأ!!.. رانيا على سبيل المثال زفرت في ملل - للمرة الثالثة - وهي تنظر للساعة القديمة المعلقة على حائط الصالون وكأن تلك النظرة ستخيف العقارب فتسرع في دورانها وتقطع الساعات في دقائق. ولما لم يطرأ تغير ما على سير الوقت حولت نظرتها تجاه أمها وأبيها تلومهما في عتاب صامت على إحضارها لهذا الإفطار بعد أن كانت أقسمت أمامهما - في هستيريا وتصميم - العام الماضي على أنها لن تذهب أبداً لمثل هذه التجمعات العائلية (المتخلفة) - على حد تعبيرها - ولن تخالط هؤلاء الناس (البيئة) طوال عمرها. لكن أباها أقنعها - كعادته - بضرورة المحافظة على الشكليات في هذه المرحلة, وذكّرها تلميحا بأن محمدا سيحضر الوليمة ومن المتوقع أيضا أن تحضر إيمان. وهكذا ضرب أبوها بكلماته على الوتر الحساس فغيرت رأيها بسرعة وقبلت أن تذهب على مضض."لن أتركه لها مهما حدث!" كان هذا هو الخاطر المسيطر عليها الآن والذي جعلها تحتمل الجلوس بينهم في هذه اللحظة متظاهرة على قدر الإمكان بالهدوء في حين كان داخلها يغلي أشد من غليان أوعية الطعام التي يتم إعدادها بحجرة المطبخ!

في نفس اللحظة التي كانت هذه الأفكار تعصف بذهن ابنة أبي المعاطي كانت (رحمة) بعيدة عن كل هذا وهي تقلب بأناملها الدقيقة ورقات مصحفها الصغير الذي قلما يفارقها وتحرك شفتيها بتسبيحات وأدعية هامسة غير مسموعة. من حين لآخر تمد بصرها ناحية طفلها الرضيع النائم على الكنبة بجوارها فتبتسم رغما عنها ابتسامة حانية ثم تنقل بصرها ليقع على وجه زوجها (معتز) المنهمك في قراءة إحدى الصحف ويظهر عليه الإرهاق والتعب. لقد حاولت أن تعفيه من الحضور مراعاة لإجهاده بعد يوم عمل شاق وصيام لكنه رفض أن يفوّت فرصة الحضور ومقابلة الجميع وهي تعلم أنه يحترم عمتها كريمة ولا يحب إغضابها, ثم أنه لا يوافق أبدا أن تخرج بمفردها مع رضيعها وتبقى لساعة متأخرة خارج بيتها.

وفي محاولة ودية لتبادل الأحاديث مالت رحمة لتقترب من (عصمت) أم رانيا وزوجة أبي المعاطي وأسرت لها ببعض ما كان يجول برأسها فما كان من الأخيرة إلا أن أظهرت عدم اهتمامها بالحديث بالمرة ووقفت فجأة لتخرج إلى الشرفة الباردة تاركة رحمة في ذهول وعدم تصديق لرد الفعل.

على الرغم من أن هذا التصرف قد يبدو لك لأول وهلة شاذا غريبا إلا أن المطلع على خفايا الأمور كان من الصعب أن يتوقع غيره. فطبيعة أسرة أبي المعاطي وعصمت هي أقرب إلى ما يمكن تسميته (الأسرة معكوسة القطبية),حيث تتركز مقاليد الأمور في يد الزوجة ويكتفي الرجل بدور التابع المطيع. حتى القرارات التي تبدو للعيان أنها نابعة من أبي المعاطي هي في حقيقتها انعكاس لرغبة زوجته بل أن الأمر يصل في بعض الأحيان لدرجة اقتناعه بأنه هو المصدر الأصلي للفكرة وأن إسهام امرأته في تكوينها لم يتجاوز مرحلة (الاقتراحات)!.. وهذا أسوأ أنواع التحكم والديكتاتورية وتلاعب الطرف المسيطر بعقل تابعه الساذج وتشكيل قناعاته بالطريقة التي يرى الشريك القوي أنها الأصلح. ولو كنتُ من دارسي علم النفس لقلت أن مثل هذا المناخ الأسري لا ينتج عنه شخصية سوية متزنة وهكذا نفهم السبب وراء سوء سلوك الابنة رانيا وقد نلتمس لها بعض العذر.

وطبيعي بعد كل هذا أن تكون العلاقة بين طرفي نقيض كـ(رحمة) و(عصمت) تتسم بالنفور وقلة الإعجاب. فالأولى تضع زوجها في المرتبة الأولى دائما وترى فيه ما يكمل نقصها الفطري دون أن ينتقص ذلك من أهميتها في بيتها شيئا. أما الثانية فتنظر لهذا النوع من المحبة غير المشروطة على أنه ضعف وتذلل وعيب في حق جنس النساء عموما, ولا ترضى بغير موقع الصدارة بديلا. ولهذا كله لم تتحمل سماع حديث رحمة عن زوجها معتز فآثرت الابتعاد قبل أن تنفجر فيضيع في سورة غضبها الكثير من مركزها الاجتماعي وتهتز الصورة التي رسمتها لنفسها في عيون الآخرين كسيدة مجتمع مهذبة.

وربما حق لك أن تتساءل عن الدافع وراء بوح رحمة بما في نفسها لعصمت مع علمها بأن ذلك قد يؤدي لاستفزاز الأخيرة.. لكنك هنا تنسى الطبيعة المتسامحة لها والتي تبدأ بحسن الظن في التعامل مع الناس وتلتمس لهم الكثير من الأعذار إن أساءوا إليها مرة بعد أخرى. وأظن أن تفكيرها رأى في المشاركة الوجدانية بينها وبين أم رانيا نوعا من تذويب طبقة الجليد الفاصلة بينهما, وبداية لفتح صفحة جديدة.. وبالطبع رأينا كم كانت مخطئة في ظنها هذا !

=====

تأففت عصمت في اشمئزاز وهي تحاول أن تجد لنفسها موقعا نظيفا بالشرفة المطلة على الشارع حتى لا تصيب الأتربة ملابسها الغالية. كانت كابنتها تكره هذا المنزل القديم وكل ما يمثله من تقليدية, ولطالما قالت عنه أنه متحف منعزل عن العالم المتسارع حوله ويتظاهر قاطنوه بالتعلق بماض اندثر وصار تراثا خوفا من مواجهة الحياة الواقعية الحقيقية. لكن في قرارة نفسها وتحت طبقات وطبقات من المظهرية الزائفة والتظاهر بالعقلانية والاستقلالية كانت تشعر أن الأسلوب الأمثل للتعامل مع العقلية المحافظة لسكان هذا البيت ومن يدينون له بالولاء هو امتصاصهم في دائرتها لا عزلهم وتركهم ينشرون أفكارهم القديمة بين الآخرين. التغيير من الداخل هو شعارها للمرحلة القادمة, وها هي تغزوهم ببطء حين توصلت لخطة تزويج رانيا بالكاشف في حين أنـ ...

لكن ما لمحته من بعيد قطع عليها حبل أفكارها وجعلها تركز بصرها لتتبين هوية ذلك الذي يقترب من باب المنزل في خطوات واسعة واثقة لا يتلفت ويعدّل من وضع منظاره على أنفه كل بضع خطوات في حركة اعتيادية. ولما تعرفته وتأكدت من هويته ارتسم شبح ابتسامة على وجهها واستدارت بسرعة لتعود لحجرة الصالون وتنضم للجالسين.. ثم جلست تنتظر.



لا يوجد تعليقات

أضف تعليق

أرشيف المدونة الإلكترونية

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

المساهمون

مدونه اف اح